أخبار

"ماتت بسبب الألم".. كشف سر المومياء الصارخة

نشرت بتاريخ 2 أغسطس 2024

كشف التحقيق التفصيلي الذي أُجري على المومياء الصارخة المعروفة باسم CIT8 عن معلومات بالغة الأهمية حول مظهرها الجسدي وصحتها وتقنيات التحنيط والمواد المستخدمة.

كتب- محمد منصور

Credit: Sahar Saleem

داخل أروقة كلية طب القصر العيني بالقاهرة، تحركت الطبيبة الشهيرة بسرعة، حاملةً رسالةً علميةً مكتوبةً قبل نحو 85 عامًا، تتحدث الرسالة عن مومياء وُجدت أسفل مقبرة الخدمة لـ"سنموت"، مهندس الملكة الفرعونية "حتشبسوت" ومربي طفلتها نفرو-رع.

تختلف تلك المومياء عن معظم مومياوات مصر القديمة؛ فهي لسيدة مجهولة، محنطة بشكل جيد للغاية، لكن وجهها يصرخ، وكأنها تألمت حتى الموت!

 توجهت "سحر سليم" -خبيرة أشعة المومياوات المرموقة، وأستاذ الأشعة التشخيصية بالقصر العيني- إلى المتحف المصري، حيث المومياء؛ لتسبر أغوارها، وتكشف -في دراسة جديدة نُشرت في دورية فرونتير إن ميديسن المرموقة- عن معلومات جديدة كُليًّا عن تلك المومياء العجيبة ذات المظهر الفريد.

 بدأت قصة تلك المومياء في عام 1935 في أثناء تنقيب بعثة متحف متروبوليتان-نيويورك بالدير البحري بالأقصر، عثر الباحثون وقتها على مدفن عائلة سنموت الذي يضم أبويه وأقارب آخرين، ومن بينهم تابوت خشبي بداخله مومياء سيدة فمها مفتوح كما لو كانت تصرخ، لذا أطلقوا عليها "المرأة الصارخة"، وقد حاول العلماء في ذلك الوقت فك شيفرة تلك المومياء، لكنها ظلت مجهولة الهوية وغير مفحوصة بدقة حتى وقتنا الحالي.

Credit: Sahar Saleem

 جعران من اليشب:

داخل غرفة من غرف فحص المومياوات في المتحف المصري، وقفت "سحر سليم" وزميلتها الأثرية الدكتورة "سامية المرغني"، وكعادة الأطباء، بدأت "سليم" في تسجيل الصفات الظاهرية للمومياء قبل أن تضعها داخل جهاز الفحص بالأشعة.

أظهرت المومياء وضعية الاستلقاء مع ساقين وذراعين ممتدتين، ويدين موضوعتين على الفخذ، وفم مفتوح على مصراعيه، كان الجلد بنيًّا غامقًا، مع عيوب في الصدر الأمامي وجدران البطن، كان الرأس مائلًا قليلًا، يزينه شعر مستعار مصنوع من شعر مضفر والعينان مغلقتان.

حين استخرج الفريق الأميركي المومياء، ذكرت ملحوظاتهم أنها كانت ترتدي خاتمين بخنفساء "جعران من اليشب" مثبتين على حلقات من الذهب والفضة، ويعرضان حاليًّا مع باقي ممتلكات المومياء  في متحف متروبوليتان في نيويورك.

Credit: Sahar Saleem

 فقدان الأسنان:

بدأت "سليم" فحص المومياء باستخدام التصوير المقطعي المحوسب، وهو دراسة غير جراحية للمومياوات والتحف الأثرية من خلال استخدام الأشعة السينية وتقنيات الكمبيوتر، توفر تلك التقنية معلومات عن مورفولوجيا المومياء وحالة الحفظ الداخلي وأسلوب التحنيط والظروف الصحية والأسباب المحتملة للوفاة.

 تقول "سليم": إن عمر السيدة عند الوفاة كان في حدود 48 عامًا، كما أنها تعرضت لمجموعة من التدخلات الطبية في أثناء حياتها؛ فقد انتُزعت أسنانها لسبب غير معلوم، بفخر تتحدث "سليم" عن طب الأسنان في مصر القديمة وتقول: "كان طبيب الأسنان حسي رع أول طبيب وطبيب أسنان مسجل في العالم".

 وقد أظهر التصوير المقطعي المحوسب أن المومياء محفوظة جيدًا، لكن لا يوجد دليل على إزالة الأحشاء أو الدماغ كما هي العادة في المومياوات الأخرى.

وتصف "سليم" وجود المخ والأحشاء كاملة بالمفاجأة؛ "إذ إن المتبع في التحنيط في المملكة الحديثة (1550-1069 قبل الميلاد) كان إزالة الأحشاء باستثناء القلب".

Credit: Sahar Saleem

 الزخرف والجمال:

في هذه الدراسة، تم استخدام التحقيقات العلمية الحديثة، مثل مطيافية تحويل فورييه للأشعة تحت الحمراء (FTIR)، وتحليل حيود الأشعة السينية (XRD)، وغيرها من التقنيات المتاحة والمطبقة على دراسة المومياوات البشرية القديمة.

تم استخدام المجهر الإلكتروني الماسح (SEM) لدراسة عينات الشعر الطبيعي والمستعار عند تكبيرات مختلفة لفهم بنيتها المورفولوجية، وتقول "المرغني": "هذه الاختبارات غير مدمرة، وبالتالي يمكن استخدامها بأمان لتحديد وتوصيف الأنسجة البيولوجية القديمة، مثل الجلد والشعر".

 في هذه المومياء، أظهرت التحقيقات التحليلية المتقدمة أن المحنطين استخدموا مواد مستوردة باهظة الثمن، في مصر القديمة، كان الشعر المستعار يُستخدم للأحياء والأموات كنوع من الزينة، والمومياء الصارخة ترتدي شعرًا مستعارًا مميزًا مقسمًا إلى جزءين منفصلين يمتدان إلى أسفل كلا الجانبين إلى مستوى الكتفين، وتم ربط جانبي الشعر المستعار على الرأس".

تُضيف "سليم" أن هات نوفر، والدة سنموت، والتي تم اكتشاف جثتها المحنطة بالقرب من المقبرة TT71 كانت ترتدي هي الأخرى شعرًا مستعارًا، هي وغيرها من المومياوات.

أما عن أقدم شعر مستعار، فقد تم اكتشافه في موقع دفن نقادة الثاني -حوالي 3600 قبل الميلاد- في هيراكونبوليس، في مصر القديمة، كان الشعر المستعار يُصنع من شعر الإنسان أو الكتان أو ألياف النخيل، وأظهر التصوير المقطعي المحوسب لهذا الشعر المستعار المصري القديم أنه كان مصنوعًا من ضفائر حلزونية منخفضة الكثافة مغطاة بمادة تحنيط كثيفة.

Credit: Sahar Saleem

 شعر من تمر:

في حالة مومياء المرأة الصارخة، أظهر تحليل مطيافية تحويل فورييه للأشعة تحت الحمراء أن الشعر المستعار كان مصنوعًا من ألياف نباتية من الضلع الأوسط لنخيل التمر، كما عُثر على بقايا من مادة تماسُك سوداء كثيفة مصنوعة من الكوارتز والمجنتيت والألبيت العالي، تتوافق مع المادة السوداء المتماسكة التي تم فحصها على ألياف الشعر المستعار والمادة الكثيفة في صور التصوير المقطعي المحوسب.

 وأشار تحليل دراسة عينات جلد المومياء وشعرها الطبيعي والمستعار إلى أنها عولجت بمواد التحنيط؛ إذ كان راتنج العرعر هو المكون الأساسي، والراتنج مادة نباتية طبيعية تنتجها الأشجار التي تنمو في سوريا وشرق البحر المتوسط.

كما تم العثور على اللبان -وهو مادة صمغية عطرية من شجرة Boswellia papyrifera- في عينات الجلد والشعر المستعار، بينما تم العثور على الحناء في عينات الشعر الطبيعي.

وقد استخدم المحنطون المصريون الراتنجات لخصائصها المضادة للحشرات المسببة للأمراض، إذ يؤدي إلى غلق سطح المومياء ومنع تدهور الجثمان.

لكن، لماذا تصرخ مومياء تلك السيدة؟

 مومياوات صارخة:

تقول "سحر سليم": إن "ظاهرة الفم المفتوح" نادرة في مصر القديمة، على عكس مومياوات الحضارات الأخرى، كحضارة البيرو، التي تترك المومياء مفتوحة الفم، ربما لرداءة التحنيط.

ويتم التحكم في آلية فتح الفم بواسطة العضلات والأربطة التي تربط الفك بالجمجمة، ويحدث فتح الفم عندما تسترخي العضلات في أثناء النوم أو يتحلل الجسد بعد الموت، ومن أجل إبقاء فم المتوفى مغلقًا، كان المحنطون يلفون الفك السفلي حول الجمجمة بشكل متكرر.

إلا أن "سليم" فحصت مومياوات مصرية قديمة مفتوحة الفم، قبل أن تفحص مومياء السيدة الصارخة؛ فقبل سنوات، قامت "سليم" بفحص مومياوان ملكيتان من خبيئة الدير البحري، تم تحديدهما باسم بنتاؤر والمرأة المجهولة، لهما فم مفتوح وكأنهما يصرخان.

وقد تم إعدام "بنتاؤر" أمير الأسرة العشرين، بتهمة إعداد مؤامرة الحريم لاغتيال والده رمسيس الثالث (1185-1153 قبل الميلاد)، أما المومياء الأخرى فكانت على الأرجح لميريت آمون، ابنة الملك سقنن رع تاعا الثاني، وشقيقة الملك أحمس (1533-1525 قبل الميلاد).

 وقد كشف التصوير المقطعي المحوسب لميرت آمون عن تصلب الشرايين التاجية الكبير، مما يشير إلى أنها ربما عانت من احتشاء عضلة القلب الشديد الذي تسبب في وفاتها المفاجئة، من المحتمل أن فم ميريت آمون المفتوح كان بسبب ترهل الفك الطبيعي بعد الوفاة، والذي استمر بسبب انقباض العضلات والمعروف باسم تصلب الموت، وربما منع هذا المحنطين من إغلاق فمها، وساعدت إجراءات التحنيط في الحفاظ على جسد المتوفاة من التحلل.

 وتقول "سليم": إنه يمكن قراءة مظهر وجه المرأة المحنطة الصارخ على أنها ماتت وهي تصرخ من الألم، فحدث تشنج الجثث، وهو نوع من التشنج يوضح الفعل النهائي قبل الموت ويحدث بعد نشاط بدني أو عاطفي شديد، مما يؤدي إلى تصلب ما بعد الوفاة مباشرةً؛ إذ تصبح العضلات المتقلصة صلبةً فور الوفاة وغير قادرة على الاسترخاء، وربما لم يتمكن المحنطون من إغلاق الفم وقاموا بتحنيط الجسد المتقلص قبل تحلله أو استرخائه، مما حافظ على فمها المفتوح بعد الوفاة، للأسف لم توضح الفحوصات سببًا واضحًا للوفاة.

سيظل السبب في تعبير وجه المومياء الصارخ سرًّا، تمامًا كسر مهندس حتشبسوت الأثير سنموت، الذي ترك الحياة العامة فجأةً ولم يُدفن جسده قَط في أيٍّ من مقبرتيه المرموقتين، ولم يُعثر على موميائه إلى يومنا هذا.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.239