من واقع تجربة مؤرِّقة: ما العمل إذا قوبلت أطروحتك بالرفض؟
12 November 2024
"> " />
أحد الفائزين بالحائز جائزة نوبل في الفيزياء يتحدث عن حل المشاكل المتداخلة بين المجالات العلمية المختلفة: "الإنصات إلى جدال العلماء له فوائده".
نشرت بتاريخ 7 نوفمبر 2024
خاض جون هوبفيلد مسيرة مهنية متنوعة ويجد متعته في العمل فيما بين التخصصات العلمية.
إذا دققتَ في السيرة الذاتية لجون هوبفيلد، وهو أحد اثنين حصدا جائزة نوبل في الفيزياء لهذا العام، لوجدت أنه شخصية موسوعية بحق. بدأ هوبفيلد مسيرته المهنية باستكشاف ما يُسمى بفيزياء الجوامد، عندما كان هذا المجال في أوجِهِ في خمسينيات القرن الماضي، قبل أن ينتقل بعد ذلك إلى دراسة الطبيعة الكيميائية للهيموجلوبين في أواخر الستينيات، ثم ما لبث أن حوَّل وجهته خلال السبعينيات إلى دراسة بنية الحمض النووي.
في عام 1982، ابتكر هوبفيلد شبكة شبيهة بالدماغ، وفيها تُشكِّل الخلايا العصبية - التي أعدَّ لها نموذجًا على هيئة جسيمات متفاعلة - نوعًا من الذاكرة. والدوائر العلمية تنظر الآن إلى «شبكة هوبفيلد»، التي نال عنها جائزة نوبل، بوصفها حجر الأساس لتقنيات تعلُّم الآلة (machine learning) التي يتكئ عليها الذكاء الاصطناعي الحديث. تقاسم هوبفيلد الجائزة مع جيفري هينتون، الذي يعد أحد رواد الذكاء الاصطناعي في جامعة تورنتو الكندية.
هوبفيلد، الذي يناهز عمره 91 عامًا، يعمل أستاذًا متفرغًا في جامعة برينستون بولاية نيوجيرسي الأمريكية. وفي حديثه إلى دورية Nature، يخبرنا هوبفيلد عما إنْ كان الإنجاز الذي أهدى إليه نوبل ينتمي حقًا إلى مجال الفيزياء. ويتحدث عن الأسباب التي تدعونا إلى التوجُّس من الذكاء الاصطناعي.
كثُر الحديث عن فوزك بجائزة نوبل، وذهب كثيرون إلى أن العمل الذي يقف وراء هذا الفوز لا ينتمي في الحقيقة إلى عالم الفيزياء، وإنما إلى علوم الحاسب الآلي. ما تعليقك؟
مفهومي عن الفيزياء أنها لا تتعلق بالشيء الذي تعمل عليه، وإنما بكيفية تعامُلك مع ذلك الشيء. إذا كنتَ، على سبيل المثال، تتبنى موقف شخص ينتمي إلى تخصص الفيزياء، فهذا بحد ذاته يعد بمثابة مسألة فيزيائية. لا شك أن نشأتي في كنف أب وأم يشتغل كلاهما بالفيزياء قد أسهمت في تكوين رؤيتي الخاصة، والمخالفة للرؤية الشائعة، لماهية الفيزياء. إن ما جعل كل شيء في الحياة يبدو لي مثيرًا للاهتمام هو نظرتي الفيزيائية التي أتاحت لي تكوين صورة كلية. ويمكنني القول إنني نشأت في عالم من الألغاز، وكنت أرغب في فهم تلك الألغاز، وكشف غموضها.
في عام 1981، كانت لي مداخلة في أحد الاجتماعات، وكان من بين الحاضرين تيري سينوفسكي، الذي كان في الأساس أحد طلابي الباحثين في علم الفيزياء، وكان يجلس إلى جواره جيف هينتون. [يدير سينوفسكي حاليًا فريقًا بحثيًا للبيولوجيا العصبية الحاسوبية بمعهد «سالك» Salk في لاهويا بولاية كاليفورنيا الأمريكية]. كان من الواضح أن هينتون على دراية بالكيفية التي من خلالها يستطيع أن يجعل نظامًا من النوع الذي كنت أعمل عليه – وهو بالمناسبة نظام ميكانيكي - يعبِّر عن علوم الحاسوب. راح سينوفسكي وهينتون يتجاذبان أطراف الحديث، وما هي إلا أن تشاركا في تأليف أول ورقة بحثية لهما معًا. وأذكر أن سينوفسكي عاد بالذاكرة ذات مرة إلى ذلك اليوم: فمن هنا بدأت الحكاية التي تروي كيف حدثت هذه النقلة من الفيزياء إلى علوم الحاسوب.
بدأتَ حياتك المهنية باحثًا في الفيزياء، فكيف انتقلتَ منها إلى علم الأحياء؟
كانت فيزياء الجوامد بمثابة العمود الفقري للتقنيات الجديدة في ذلك الوقت. لكن، شيئًا فشيئًا، أصبح من الصعب العثور على إشكالية بحثية جيدة؛ بمعنى أن تضع يدك على مشكلة يكون باستطاعتك حلها، وأن تكون في الوقت ذاته مما يقع في حيز اهتمامك. كان لي صديق يُدعى بوب شولمان يعمل حينذاك في مختبرات «بِل» Bell، وهو المكان عينه الذي كنت أعمل فيه في ذلك الوقت. كان بوب قد انتقل حديثا من دراسة الكيمياء إلى علم الأحياء، وبدأ يحدثني عن فكرة أن ذلك التحول يجعلك تتمكن من دراسة الجزيئات البيولوجية بالتفصيل. ساعتها خطر ببالي أنه ربما يكون قد حان الوقت لتطبيق الطريقة التي درسنا بها الحالة الصلبة على جزيئات كبيرة.
في اعتقادك، ما الفائدة التي عادت على علم الأحياء من النهج الذي كنت تتبناه في الفيزياء؟
في الواقع ما حاولت عمله هو تجميع ما فهمته عن أنظمة صغيرة ثم أنظر بعد ذلك ما إذا كان بإمكاني استخدام ما توصلت إليه لفهم أنظمة أكبر. كان يسيطر على ذهني سؤال بسيط: هل يمكنك الانتقال من الفيزياء عند أحد طرفي الخيط إلى الأحياء عند الطرف الآخر؟ كانت هناك مشاكل وكان بإمكاني تصور الاستنتاجات التي تؤدي إلى حلها؛ وذلك كله يعود إلى فهمي لنظام فيزيائي يرتبط ارتباطا نظريا مجردا بتلك المشاكل.
في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، تحولتَ إلى علم الأعصاب والجهود المبذولة لمحاكاة الدماغ باستخدام خلايا عصبية اصطناعية. كيف نشأت شبكة هوبفيلد؟
بدأتُ أولا في كتابة معادلات بسيطة تصف كيف يتغير نشاط الجهاز العصبي بمرور الوقت نتيجة للتفاعلات الذاتية التي تحدث داخل المنظومة العصبية نفسها وكذلك نتيجة لتفاعلاته مع العالم الخارجي. يمكنك أن تستحضر في ذهنك نفس النوع من المعادلات فيما يخص أنظمة الدوران المتفاعلة في المجال المغناطيسي. هذا هو ما دفعني حقًا لمحاولة التوفيق بين معادلات الحركة في مجال معين وبين نفس المعادلات في مجال مختلف.
يعرب هينتون عن مخاوفه بشأن الأضرار المحتملة للذكاء الاصطناعي. هل تشعر بنفس القلق؟
أنا فعلا قلق بشأن ذلك. لكنني أريدك أولا أن [تفكر في] التقنيات النووية التي مكنت البشر من صنع قنابل ضخمة على نحو عشوائي، بيد أنه من الممكن أيضا أن تكون لها فوائد جمة. لم يبدأ الناس في الشعور بالقلق إلا عندما أدركوا ماهية التفاعل المتسلسل. لو عدت بالذاكرة سريعًا إلى عام 1970، لوجدت أن القائمين على علم الأحياء كانوا شديدي القلق بشأن الهندسة الوراثية. كانوا يرون أنه إذا تمكنت من تصميم فيروس بشكل هندسي سليم، فلربما كنت قاب قوسين أو أدنى من إبادة مجتمعات سكانية بأكملها. فالعملية برمتها تعتمد في الأساس على تفاعل متسلسل. لن أكون مندهشا لو أنه أصبح ممكنا تصور هذا النوع من المخاطر في الذكاء الاصطناعي؛ بمعنى أن تتمكن من تصميم البرامج بطريقة تجعلها قادرة على التكاثر ذاتيًا.
عالمنا ليس بحاجة إلى سرعة غير محدودة في تطوير الذكاء الاصطناعي. سأظل أشعر بالقلق إلى أن نفهم المزيد عن أوجه القصور في الأنظمة التي بمقدورنا أن نبنيها وعن موقعنا على سلم المخاطر.
بما تنصح طلاب الدكتوراه في وقتنا الحاضر؟
عندما تجد فجوة بين مجالين معينين، انظر إلى ما إذا كان هناك أي شيء مثير للاهتمام في تلك الفجوة. لطالما كنت أجد تلك المساحات البينية بين التخصصات العلمية مثيرة للاهتمام لأنها تحوي أشخاصا مثيرين للاهتمام بدوافع مختلفة. وكنت أرى أن الإنصات إلى جدالهم أمر مفيد للغاية؛ لأنك تعلم من خلاله الأشياء التي يرونها ذات قيمة حقيقية والطريقة التي يحاولون من خلالها حل مشكلة بعينها. إذا لم تكن لديهم الأدوات الصالحة لحل المشكلة، فلربما أتيحت لي مساحة هناك.
هل ما زلت باحثًا نشطًا؟
أنا لا أقوم بالتدريس حاليا. لدي رفيق بحثي واحد هو ديمتري كروتوف [يعمل حاليا في مختبر «إم آي تي - آي بي إم واطسون» للذكاء الاصطناعي MIT-IBM Watson AI في كامبريدج بولاية ماساتشوستس]، وهو عالم متخصص في الفيزياء النظرية وحقيقةً أستمتع بالتحدث معه. لا أمارس هذه الأيام أية أعمال تخص الرياضيات؛ إلا أنني بالتأكيد أجد متعة في التواصل والتفاعل مع الأشخاص الذين يحاولون طرح مسائل مهمة والإجابة عنها. من الممتع أن تتذكر مدى اتساع نطاق المسائل التي يعمل عليها الباحثون. عندما كنت أقوم بالتدريس، كان العنصر الدائم في تلك العملية هو الشباب بوجهات نظرهم المختلفة؛ وتلك هي الطريقة التي تجعلك دائما محافظا على شبابك.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.321
تواصل معنا: