ما سر تقاطر الباحثين على نموذج الذكاء الاصطناعي ذائع الصيت «ديبسيك»؟
12 February 2025
نشرت بتاريخ 9 فبراير 2025
بفضل البنى البروتينية التي استطاع الذكاء الاصطناعي التنبؤ بها، أمكن الكشف عن المسار التطوُّري لعائلة الفيروسات المسؤولة عن الإصابة بحمى الضنك والالتهاب الكبدي الوبائي (سي).
Credit: Spyros Lytras and Joe Grove
الذكاء الاصطناعي يسهم في إعادة رسم شجرة عائلة الفيروسات. فالبنى البروتينية التي أنتجتها الأداة «ألفا فولد» AlphaFold، التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، والنماذج اللغوية للبروتينات، المستوحاة من طريقة عمل روبوتات الدردشة، أزاحت الستار عن بعض الروابط غير المتوقَّعة في عائلة الفيروسات، ومنها فيروسات تصيب الإنسان بالفعل، وأخرى يُحتمل أن تصيبه مستقبلًا.
مفهوم العلماء عن تطور الفيروسات يستند، في جانب كبير منه، إلى المقارنات الجينومية. ولكن لمَّا كان هذا التطوُّر يتمُّ بسرعة البرق، خاصةً في حالة الفيروسات المدوَّنةِ جينوماتُها على الحمض النووي الريبي (RNA)، ومع ميل الفيروسات إلى اكتساب مادة جينية من كائنات أخرى، فإن التسلسلات الجينية يمكن أن تعجز عن كشف العلاقات العميقة والبعيدة بين الفيروسات، وهو ما يمكن أن يختلف أيضًا تبعًا لاختلاف الجين قيد الفحص.
وعلى النقيض من ذلك، نجد أن البروتينات التي ترمِّزها الجينات الفيروسية لها أشكال وبنى بطيئة التغيُّر، وهو ما يتيح الكشف عن تلك الروابط التطورية الخفيّة. ومع ذلك، فحتى ظهور أدوات على شاكلة «ألفا فولد»، تستطيع التنبُّؤ ببنى عددٍ كبير من البروتينات في ذات الوقت، لم يكن في الإمكان المقارنة بين بنى البروتينات الخاصة بعائلة فيروسية بأكملها، على حد قول جو جروف، الباحث المتخصص في علم الفيروسات الجزيئي بجامعة جلاسجو، في المملكة المتحدة.
في دراسةٍ نُشرة على صفحات دورية Nature في شهر سبتمبر الماضي1، أفصح جروف وفريقه عما يمكن أن تقدمه منهجية قائمة على فحص البنى البروتينية في الوصول إلى فهمٍ أفضل لما يُعرف بالفيروسات المصفرة؛ وهي مجموعة من الفيروسات تشمل فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي (سي)، والفيروس المسبب لحمى الضنك، وفيروس «زيكا»، إضافةٍ إلى بعض العوامل الممرضة للحيوانات، وبعض الأنواع التي قد تشكِّل تهديدًا لصحة الإنسان مستقبلًا.
كيف يقتحم الفيروس الخلية؟
فهم الباحثين لتطوُّر الفيروسات المصفرة يعتمد أساسًا على تعيين تسلسل إنزيمات بطيئة التطور، تعمل على نسخ المادة الجينية. ومع ذلك، فإنها لا يعرفون إلا لمامًا عن أصول "بروتينات الإدخال"، التي تستعين بها الفيروسات المصفرَّة لمهاجمة الخلايا، وهي المسؤولة كذلك عن تحديد العوائل التي يمكن لهذه الفيروسات إصابتها. يرى جروف أن هذه الفجوة المعرفية هي ما أخَّرت التوصُّل إلى لقاح للالتهاب الكبدي الوبائي (سي)، الذي يودي بمئات الآلاف من البشر كل عام.
يقول: "على مستوى التسلسل الجيني، تبدو الأمور من التشعُّب بحيث يتعذَّر الجزم بما إن كانت الفيروسات قريبةً من بعضها تطوريًّا، أم لا. ثم جاءت فكرة التنبُّؤ ببنى البروتينات لتحلَّ المسألة برمّتها، بحيث أصبح في مقدورنا رؤية الأمور بجلاء".
استعان الباحثون بنموذج «ألفا فولد 2»، الذي طوَّرته شركة «ديب مايند» DeepMind، وكذا بالأداة المسمَّاة «إي إس إم فولد» ESMFold، وهي أداة متخصصة في التنبُّؤ بالبنى طوَّرتها شركة التقنية العملاقة «ميتا» Meta، لإنتاج ما يربو على 33 ألف بنية بروتينية تخص بروتينات مأخوذة من 458 نوعًا من الفيروسات المصفرة. مما يُذكر عن النموذج «إي إس إم فولد» أنه قائم على نموذج لغوي مدرَّب على عشرات الملايين من التسلسلات البروتينية. وهي، خلافًا لـ«ألفا فولد»، لا تحتاج أكثر من تسلسل واحد، بدلًا من الاعتماد على تسلسلات عدَّة لبروتينات متشابهة، ما يجعلها مناسبة بوجهٍ خاص لفحص الفيروسات الغامضة.
بفضل البنى البروتينية التي تنبَّأت بها الأدوات القائمة على الذكاء الاصطناعي، تمكَّن فريق الباحثين من التعرف على بروتينات إدخال الفيروسات باستخدام تسلسلات تختلف كل الاختلاف عن التسلسلات المعروفة للفيروسات المُصفرة. ووجدوا روابط غير متوقعة: منها أن مجموعة الفيروسات الفرعية التي تشمل فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي (سي) تهاجم الخلايا عن طريق نظامٍ شبيهٍ بالنظام المكتشَف في الفيروسات الطاعونية (pestiviruses)، وهي مجموعة من الفيروسات تضم الفيروس المسبِّب لحمى الخنازير التقليدية، التي تصيب الخنازير بحمى نزفية، كما تضمُّ غير هذا الفيروس من الكائنات المُمْرضة للحيوانات.
أظهرت عمليات المقارنة المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن نظام الإدخال هذا يختلف عن النظام المعروف في العديد من الفيروسات المُصفرة. يقول جروف: "في حالة فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي (سي) وأقربائه، لا نعلم على وجه التحقيقي مَصدر نظام الإدخال هذا. لعلّه من صنيعة تلك الفيروسات في الزمان القديم".
Credit: Spyros Lytras and Joe Grove
قرصنة جينية
وكذلك كشفت البنى البروتينية التي أمكن التنبُّؤ بها بواسطة الذكاء الاصطناعي أن بروتينات الإدخال الخاصية بفيروسَي «زيكا» و«الضنك»، وهي من البروتينات التي دُرست دراسة مستفيضة، جاءت من نفس المصدر الذي جاءت منه الفيروسات المصفرة ضخمة الجينوم، والتي يصفها جروف بأنها فيروسات "غريبة ورائعة"، ومنها الفيروس «هاسيكي تيك» Haseki tick، الذي يُكن أن يصيب البشر بالحمى. ومن المفاجآت الكبرى أيضًا، ما كشفت عنه الدراسة من أن بعض الفيروسات المصفرة تمتلك إنزيمًا يبدو أنها قد استولت عليه من البكتيريا. وقد علَّقت ميري بترون، الباحثة بجامعة سيدني في أستراليا، بقولها إن هذا الاكتشاف "كان ليكون غير مسبوق"، لولا أن فريقها قد سَبقَ إليه في وقتٍ سابق من عام 2024 باكتشاف حالة سرقةٍ مشابهة في نوعٍ من الفيروسات المصفرة يبلغ من الغرابة والروعة مداهما2. وأضافت: "لعل القرصنة الجينية لعبت دورًا في تشكيل المسار التطوُّري لعائلة الفيروسات المصفرة أكبر مما كان يُعتقد في السابق".
يرى ديفيد مُوي، الباحث المتخصص في البيولوجيا الحاسوبية بجامعة لوزان السويسرية، أن الدراسة لا ترسم سوى جزءٍ من الصورة، وما خفي كان أعظم، مشيرًا إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعيد كتابة السجلات التطوُّرية للفيروسات الأخرى، بل وحتى بعض الكائنات الخلوية. يقول: "بالاستعانة بالجيل الجديد من الأدوات، سنعيد كتابة قصة تلك الفيروسات. أما وقد أصبح في مقدورنا أن نرى أبعد مما كنا نرى فيما مضى، فما من شيء من هذه الأشياء إلا وسوف يطرأ عليه تحديثٌ ما".
* هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 16 سبتمبر 2024.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.15
تواصل معنا: