لا بد من وضع حد لاختفاء ملايين الأوراق البحثية
18 December 2024
نشرت بتاريخ 11 ديسمبر 2024
شأني شأن ملايين السوريين، فتحتُ عيني صبيحة يوم الثامن من كانون الأول/ ديسمبر على بلدٍ لم يعد يحكمه النظام الذي حَكَمه بالحديد والنار طيلة 54 عامًا.
نعم، أنا سوريَّة ولكني أقيم خارج سوريا، إذ أعمل صحفيةً علميةً لدى مجلة Nature، وأقيم في العاصمة الإنجليزية، لندن.
تعجز الكلمات عن التعبير عما يعتمل في نفوس الكثيرين منّا – نحن السوريين. لكن شعورًا بعينه كان غالبًا علينا، هو الشعور بالصدمة؛ فقد سقط حكم الرئيس السابق بشار الأسد بسرعةٍ لم تجرِ لأحد على بال.
لم نتخيَّل أن يأتي علينا يوم نشهد فيه اجتثاث التماثيل وإسقاطها في جميع أنحاء سوريا: تماثيل بشار، وأبيه، الرئيس الأسبق، حافظ الأسد. كما أن أحدًا لم يدُر بخلده أن آلاف المعتقلين السياسيين، الذين أمضوا من أعمارهم عشرات السنين خلف القضبان، يرزحون تحت وطأة التعذيب، ولا يكادون يقوُون على فتح عيونهم، سيأتي عليهم صُبحٌ يَبهَر بنوره أعيُنهم المُنهَكة.
قدِمتُ إلى بريطانيا في العام 2013، بعدما تعرَّضَتْ مدينة حمص، التي نشأتُ بها، لقصفٍ عنيف محا معالمها، وجعل عاليَها سافلَها. ولم يسبق لي أن رأيتُ الجالية السورية في لندن مبتهجةً كابتهاجها يوم الأحد، حين ضمَّتنا ساحة «الطرف الأغر» (أو «ترافالجار سكوير»)، وجعلنا نلوّح بالأعلام، ونرقص فرحًا، ونُنشد أغاني الحرية.
أمام علماء سوريا عملٌ كثير.
لأول مرة، أتيح للعالَم أن يرى رأيَ العين ما كان يجري داخل سلخانات التعذيب التي أقامها الأسد ونظامه، وزنازين السجون التي تنخلع من هولها القلوب، والأماكن التي مورست فيها أبشع صور التعذيب وأشدها وحشية، حتى لقد فاضت فيها أرواح الكثيرين، لا من السوريين وحدهم، ولكن ممن لهم أصول لبنانية وفلسطينية كذلك.
لا يوجد مكان إلا وفيه بقعة دم. وهذه مقبرة جماعية عُثر عليها في إحدى ضواحي العاصمة، دمشق، ولا يبعُد أن يُعثر على المزيد.
هنا يأتي دور اختصاصيي الطب الشرعي، الذين تشتدُّ الحاجة إلى خدماتهم للتعرُّف على هوية مَن قضى، بل ومَن نجا أيضًا. وما أحوجنا كذلك إلى إجراء فحص جغرافي مكاني، هدفه تحديد المواقع التي اتخذ منها النظام سجونًا، وكذا مواقع دفن الجثث، على أن يُعتبر كل موقع من تلك المواقع مسرح جريمة. وليس سرًّا أن الأسد استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه؛ فلا بُد من العثور على أماكن تخزين تلك الأسلحة أولًا، ومن ثم تدميرها. ولا بُد كذلك من حفظ كل ما يُعثر عليه من أدلة جنائية، حتى يتسنَّى إحقاق الحق، وإقامة العدل، ولو بعد حين.
ثم تأتي بعد ذلك المهمة الكبرى، المتمثلة في إعادة بناء جامعات سوريا ومؤسساتها البحثية. تدحرجت الأمور نحو الأسوأ في أعقاب ثورات الربيع العربي، في العام 2011، عندما خرجت الجموع إلى الشوارع، شبابًا وشِيبًا، ينادون بالحرية. ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يردَّ النظام بقصف المدارس والجامعات. وقد رأيتُ مدرستي الابتدائية وهي تتحوَّل إلى مقبرة جماعية.
الجاليات السورية التي تعيش وتعمل بالخارج كبيرةٌ حقًا. وبعض هؤلاء، ممن تربطهم بالمجتمع البحثي الدولي صلاتٌ وثيقة، عليهم واجب المساعدة في إحياء المنظومة العلمية السورية، بما تشمل من تعليم، وبحث علمي، وبنية تحتية.
مهما أوتيتُ من قدرة على الوصف، فلن أقدر على وصف شعوري بالحرية والانعتاق. على مدى أكثر من نصف قرن، لم يعرف السوريون – ومنهم العلماء وطلاب وأساتذة الجامعة – معنى أن تعيش دون مراقبة لصيقة من أجهزة الأمن السرية، البغيضة والمخيفة.
كان أهم اختبار يتعيَّن على أي طالب أن يجتازه هو اختبار الولاء للنظام، وكل ما عداه لم يكن يهم. والويل لمن يرسب في ذلك الاختبار: سيكون مصيره السجن، أو التعذيب، أو النفي.
بسقوط نظام الأسد، انقضى عهدٌ وبدأ عهد جديد من الأمل، غير أنه أملٌ يقف عند طرف طريقٍ طويل وشاق. هكذا سيدخل السوريون مرحلة جديدة، وسيطرقون أرضًا لم يطؤوها من قبل.
عانى الشعب الأمرّين، واحتمل من الخسائر ما يفوق التخيُّل. أما وقد انطوت صفحة الأسد ونظامه، فيُؤمَل أن تسنح لسوريا فرصة إعادة بناء مجتمعها العلمي، واستعادة حريتها الفكرية. والمجتمع العلمي والأكاديمي الذي شتَّتته الحرب، أمامه اليوم فرصةٌ ليولد من جديد. غير أن هذا يتطلب استدعاء كل ما يمكن استدعاؤه من مساعدة خارجية.*هذه ترجمة للمقالة الإنجليزية المنشورة بمجلة Nature بتاريخ 9 ديسمبر 2024.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.333
تواصل معنا: