أخبار

لا بد من وضع حد لاختفاء ملايين الأوراق البحثية

نشرت بتاريخ 18 ديسمبر 2024

أنظمة الحِفظ الرقمي لا تواكب النمو الكبير في حجم المعارف الأكاديمية. والوقوف على أسباب هذا القصور هو الخطوة الأولى لضمان حفظ الأعمال البحثية لتفيد منها الأجيال القادمة.

مكتبات بودليان في جامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة، وهي واحدة من مكتبات «الإيداع القانوني». وقد تعذر الوصول إلى محتوياتها لأكثر من عام على أثر هجومٍ سيبراني.
مكتبات بودليان في جامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة، وهي واحدة من مكتبات «الإيداع القانوني». وقد تعذر الوصول إلى محتوياتها لأكثر من عام على أثر هجومٍ سيبراني.
Credit: Christopher Furlong/Getty

ملايين من المقالات البحثية لم يعد لها أثر في الأرشيفات الرقمية الكبرى. هذا ما كَشَفت عنه دراسة أجراها مارتن إيف، الباحث في مجال التكنولوجيا والنشر بكلية بيركبيك التابعة لجامعة لندن، ونشرَتْها مجلة Nature في وقتٍ سابق من العام الجاري. في هذه الدراسة، عمد إيف إلى تحليل عيناتٍ منتقاة من أكثر من سبعة ملايين مقال تحمل مُعرّفات رقمية (DOIs) فريدة؛ ويُقصد بالمعرِّف الرقمي تلك السلسلة من الحروف والأرقام التي تُستخدم لتعريف مؤلَّفات بعينها، مثل الكتابات العلمية والتقارير الرسمية، وإتاحة الوصول إليها. وَجد الباحث أن أكثر من مليوني مقال منها كانت "ساقطة" من الأرشيفات؛ أي أنها لم تُحفظ في الأرشيفات الكبرى التي تتيح إمكانية العثور على هذه المواد المنشورة عند البحث عنها مستقبلًا (M. P. Eve J. Libr. Sch. Commun. 12, eP16288; 2024).

بالإضافة إلى كونه باحثًا، يعمل إيف مطورًا للأبحاث في مؤسسة «كروس رِف» Crossref، وهي مُنظمة معنية بتسجيل المُعرّفات الرقمية (DOIs). وقد أجرى هذه الدراسة من أجل الاقتراب من فهم مُشكلةٍ ليست غائبةً عن وعي أمناء المكتبات وموظفي الأرشيف: وهي أنه على الرغم من أن الباحثين ينتجون المعارف بمعدلات غير مسبوقة، يُلاحَظ أن هذا الإنتاج الغزير لا يُحفظ بالضرورة بطريقة آمنة بما يتيح الرجوع إليه في المستقبل. ومن بين العوامل المساهمة في إنتاج هذه المشكلة، اختفاء بعض الدوريات والجمعيات العلمية. على سبيل المثال، خلُصت دراسة أُجريت في عام 2017 إلى أن غياب الأرشفة الشاملة والمفتوحة قد ترتَّب عليه أن اختفت من شبكة الإنترنت خلال العقدين الأوَّلين من هذه الألفية 174 دورية مفتوحة المصدر، تغطي جميع الموضوعات البحثية الرئيسية والمناطق الجغرافية (M. Laakso et al. J. Assoc. Inf. Sci. Technol. 72, 1099–1112; 2021).

ويكون تأثير غياب الأرشفة طويلة المدى أشد في مؤسسات الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وفي المؤسسات الأقل ثراءً في الدول الغنية، وكذا في الدوريات العلمية صغيرة الحجم محدودة الموارد على مستوى العالم. ومع ذلك، لم يتضح ما إذا كان الباحثون، فضلًا عن المؤسسات والحكومات، قد أوْلوا هذه المشكلة ما تستحق من الاهتمام. ففي تعليقٍ أدلَتْ به إيرينا كاتشما، مديرة برنامج الوصول المفتوح في مُنظمة «المعلومات الإلكترونية للمكتبات»، وهي منظمة غير الربحية تتخذ من العاصمة الليتوانية فيلنيوس مقرًا لها، وتهدُف إلى تحسين مستوى إتاحة المعلومات الرقمية للجميع، قالت إن "حِفظ المعلومات مشكلة يلحظها الجميع، لكنها ليست بالمشكلة التي يسهُل حلها".

أما جيني هِندريكس، المُديرة التنفيذية للبرامج في مؤسسة «كروس رِف»، وتقيم في لندن، فذكرت أن "الكثير والكثير من الدوريات تخرج إلى حيز الوجود في غيابٍ لما يكفي من الضوابط وآليات الرقابة". وتابعت: "هناك الناشرون الكبار الذين يقومون بما ينبغي القيام به، لكن هناك أيضًا نصف دوريات العالم التي تُدار بمواردَ ضئيلة، بحيث يكون الحصول على بعض الخدمات التي تقدمها شبكات الأرشفة الرقمية بالنسبة إليها أمرًا مكلفًا، هذا إن كان القائمون عليها على دراية بوجودها من الأصل".

لأغراض إعداد هذه الافتتاحية، تواصلَتْ Nature مع أمناء مكتبات وموظفي أرشيف وباحثين ومنظمات دولية، وطلبت إليهم اقتراحات لتحسين هذا الوضع. وعلى الباحثين والمؤسسات وجهات التمويل أن يفطنوا إلى أهمية ما يمكنهم تقديمه في هذا الصدد.

يبدو جليًّا أن لُب هذه المشكلة يكمن في نقص التمويل والبنية التحتية والخبرة اللازمة لأرشفة الموارد الرقمية. تقول كاثلين شيرَر: "الحِفظ الرقمي مكلفٌ، كما أنه ينطوي على درجة عالية من الصعوبة". تقيم شيرر بمدينة مونتريال في كندا، وتشغل منصب المدير التنفيذي لاتحاد مستودعات الوصول المفتوح (COAR)، وهي شبكة عالمية من أرشيفات المواد العلمية. وتابعت: "الأمر لا يقتصر على الاحتفاظ بنسخٍ احتياطية من المؤلفات فحسب، بل يمتد ليشمل الإدارة النشطة للمُحتوى على المدى الطويل، في ظل بيئة تكنولوجية سريعة التطور".

يُعد الاشتراك في خدمة أرشفة مدفوعة من الحلول المتاحة للمؤسسات الراغبة في حماية محتواها، إن كانت قادرة على تحمل هذه التكاليف. ومن الأمثلة على هذه الخدمات، أرشيف «بورتيكو» Portico الرقمي، ومقره مدينة نيويورك، وأرشيف «كلوكس» CLOCKSS الكائن في مدينة ستانفورد بولاية كاليفورنيا، وكلاهما يقدم خدماته لمجموعة واسعة من الناشرين والمكتبات.

أما عندما تكون الموارد المالية محدودة، فقلّما تُعطَى الأولية لأعمال الأرشفة، وهو حال أكثر الناشرين في البيئات شحيحة الموارد. تقول كيت ويتنبرج، المُديرة التنفيذية لأرشيف «بورتيكو» الرقمي: "يُشكل هذا تحديًا أكبر، لأن كثيرًا من هذه الدوريات صغيرة، ومعرضة أكثر من غيرها لفقدان مؤلفاتها، ذلك أنها لا تمتلك بنى تحتية قوية خاصة بها لإدارة المنصات وحِفظ محتواها".

وثمة خيار آخر، هو أن تُدرِج المؤسسات وجهات التمويل أرشفة النصوص والبيانات كشرطٍ ضمن مُتطلبات المشروعات البحثية، بجانب نشر الأوراق العلمية. من شأن ذلك أن يضمن، على الأقل، إيداع الأعمال في مستودعات مؤسسية، في حال توافر مثل هذه الخدمات. فإذا لم تكن متوافرة، فإن اشتراط الأرشفة سيدفع الباحثين وجهات التمويل للتفكير مليًا وإيجاد حلول لاستيفاء هذا الشرط.

أضِف إلى ذلك أن الإلزام بالأرشفة سيحثُّ الجامعات التي لا تمتلك مستودعات بحثية بعدُ على السعي لإنشائها. يقول حسين سليمان، الباحث في مجال المكتبات الرقمية بجامعة كيب تاون في جنوب إفريقيا: "الجامعات في مجتمعاتنا من أطول المؤسسات عمرًا وأكثرها بقاءً. فإذا اعتمدنا هذا النهج على نطاقٍ واسع، فسوف يُصبح لدينا آلية سانحة لحِفظ الإنتاج المعرفي لجيلنا، حتى يتسنى للأجيال القادمة الوصول إليه".

ومن الحلول المطروحة كذلك، أن تشرع المزيد من الدول في العمل بنظام «مكتبات الإيداع القانوني»، وهي مكتبات مركزية يُلزَم المؤلفون أو الناشرون بإيداع أعمالهم الجديدة لديها. ابتُكر هذا المفهوم، في الأصل، لضمان امتلاك مؤسسة واحدة على الأقل نسخةً متاحة للعموم من كل الكتب المنشورة، لكن بعض الدول توسَّعت في تطبيقه بحيث يشمل الأعمال البحثية أيضًا. وصحيحٌ أن التوسع في الأخذ بهذا النظام لن يوفر حلًا متكاملًا، لأنه ليس من السهل الوصول إلى المواد المؤرشفة في نظام الإيداع القانوني؛ لكن يمكن النظر إليه على أنه أقلُّ ما يُمكن فعله لضمان استمرار وجود نُسَخ من الأعمال الأكاديمية، في حال لم يعُد بإمكان أصحابها دعم أرشفتها. وترى هِندريكس أن هناك حاجة إلى زيادة التنسيق وتحسينه "بين الجهات الفاعلة الكُبرى على المستوى العالمي"، موضحةً أن كلمة "العالمي" هنا لا ينبغي أن تعتبر مرادفةً أو معادِلةً للغربي.

إن التوسع في إتاحة المعرفة للجميع، وتسليط الضوء على الأبحاث الجديدة يُشكلان، عن حق، محورًا من محاور اهتمام سياسات النشر البحثي في العالم أجمع. والأرشفة تقع في القلب من هذا الاهتمام، بل وفي القلب من العملية البحثية على جملتها. وكما صرَّح إيف لـNature في شهر مارس الماضي: "معرفتنا العلمية والبحثية بأكملها تعتمد على سلسلة من الحواشي". وإذا زادت القيود على الوصول إلى هذه المعرفة، فإن الأبحاث التي سيُكتب لها البقاء هي الأبحاث التي تُسيطر عليها المؤسسات التي تملك من الموارد المالية ما يمكِّنها من حماية أبحاثها في الأرشيفات، كمؤسسات أوروبا والولايات المتحدة. فلا بدّ من التحرُك الآن، واتخاذ ما يلزم من الإجراءات الكفيلة بأن تبقى سجلات الأعمال الأكاديمية التي ينتجها الجميع، وفي كل مكان، متاحةً للأبد.

 

Nature 635, 785-786 (2024)

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.335