أخبار

عام على الحرب بين إسرائيل وحماس: هل يصمد الباحثون فيها؟

نشرت بتاريخ 25 ديسمبر 2024

على كلا جانبي حدود قطاع غزة مع إسرائيل، يصف علماء ورواد تكنولوجيا ومعلمون شعورهم بالضياع على أثر دمار منازلهم وتحطيم مختبراتهم وقتل زملائهم.

جوسي جلاوسيوس

جميع الجامعات والكليات المجتمعية التسعة عشر في غزة، ومن بينها الجامعة الإسلامية بغزة تعرضت للتلف أو التدمير.
جميع الجامعات والكليات المجتمعية التسعة عشر في غزة، ومن بينها الجامعة الإسلامية بغزة تعرضت للتلف أو التدمير.
AFP/Getty

كان حسين العجرمي يدير شركته الخاصة للتقنيات الحيوية في مدينة غزة، لكنه لجأ إلى القاهرة في أوائل مايو الماضي، فرارًا من قصف إسرائيلي على قطاع غزة، إثر هجمات شنتها حركة حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر عام 2023. وقد ترك خلفه زوجته وأربع بنات ووالديه، وهم يعيشون الآن في خيام المواصي على الساحل الجنوبي للقطاع.

ويروي لنا تجربته قائلًا: "كنت أمتلك منزلًا وسيارة ومصنعًا ووظيفة، فضلًا عن شركتي الخاصة. كما كنت أُدرِّس في جامعات وأعمل استشاريًا لعدد من منظمات المجتمع المحلي غير الحكومية". أما اليوم، فنتيجة للحرب الدائرة، يقول العجرمي: "دُمر منزلي تمامًا. ودُمرت سيارتي ومصنعي. ضاع كل شيء خلا ما نرتديه من ثياب".

لكن الدمار والخراب اللذين نزلا بالقطاع لم يمنعا العجرمي من العمل كاستشاري لمنظمة دامور لتنمية المجتمع، وهي منظمة فلسطينية غير ربحية في قطاع غزة، تجمعها شراكة بمعهد وادي عربة للدراسات البيئية، وهو مؤسسة تعليمية ومبادرة بناء سلام في مُجمع كيتورا بإسرائيل. وفي إطار مبادرة «انطلاقة الأمل» Jumpstarting Hope في قطاع غزة، وهي مبادرة إسرائيلية فلسطينية أطلقتها المنظمتان سالفتا الذكر في يونيو الماضي، يساعد العجرمي على تصميم وبناء "ملاجئ صغيرة مستدامة" للفلسطينيين النازحين في منطقتي المواصي وخان يونس جنوب قطاع غزة.

الملجأ الأول من هذه الملاجئ، أُسس في منطقة المواصي في فبراير الماضي، ويؤوي 700 أسرة تعيش في خيام متفرقة. وبحسب ما يفيد ديفيد ليرار مدير مركز الدبلوماسية البيئية التطبيقية من معهد وادي عربة للدراسات البيئية، يتمتع ملجأ ثان في المنطقة نفسها "بقدرة ضعيفة على إنتاج الكهرباء من خلال الألواح الشمسية وبالقدرة على تحلية بعض المياه"، ومعالجة مياه الصرف، ما يكفل لساكنيه "النظافة والأمن، فضلًا عن إمدادهم بخدمات مجتمعية مثل المطابخ المركزية وخدمات غسيل الملابس، ودورات المياه وغرف الاستحمام".

ويضيف ليرار أن معهد وادي عربة للدراسات البيئية قد عقد شراكة مع منظمة دامور لتوفير عدد كافٍ من الألواح الشمسية والبطاريات ومعدات تحلية المياه ومعالجة مياه الصرف لتلبية جميع احتياجات النازحين. والمعهد في الوقت الحالي بانتظار تصريح الجيش الإسرائيلي لجلب المعدات إلى القطاع.

أما في مصر، فيبحث العجرمي عن شركاء دوليين وموارد للمواد التي تحتاجها مخيمات اللاجئين، والتي يصعب العثور عليها في القطاع. "للأسف لم أستطع جلب عائلتي معي. زوجتي وأطفالي وأبي وأمي، وأختي وأخي، جميعهم لا يزالون في غزة". هكذا قال العجرمي، لافتًا إلى أن أسرته نزحت لأكثر من ثمان مرات خلال الحرب، التي فرضت فيها قوات الدفاع الإسرائيلية بدءًا من السابع من أكتوبر الماضي سيطرتها على معبر رفح الحدودي بين مصر وغزة، ومنذ ذلك الحين أُغلق المعبر.

والعجرمي هو واحد من آلاف الباحثين والعلماء والطلاب الفلسطينيين الساعين إلى إعادة بناء حياتهم ومشوارهم المهني، سواء في القطاع أو في مناطق أخرى إثر هذه الحرب المدمرة  التي قُتل فيها أكثر من 41 ألف فلسطيني، حسبما أفادت وزارة الصحة في غزة ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. كذلك دُمرت 70 ألف وحدة سكنية في القطاع وفق بعض التقديرات. وخلال هجمات السابع من أكتوبر الماضي، قتلت حركة حماس 1200 إسرائيلي، واختطفت 250 آخرين، بعضهم قُتل لاحقًا في الأسر. ويواجه باحثون في المنطقة عقبات جسام في إعادة بناء مشوارهم المهني على خلفية تدمير منازلهم، وقصف البِنى التحتية بالمنطقة وفسخ عقود عملهم. ويُرغم الفلسطينيون بوجه عام على النزوح، ويواجهون نقص الكهرباء ونقص خدمات الرعاية الصحية والماء ومرافق الصرف الصحي.

كذلك  دُمرت أو أُتلفت جميع الجامعات والكليات المجتمعية البالغ عددها تسع عشرة كلية وجامعة في قطاع غزة . ويتخوف مراقبو الوضع في الأمم المتحدة من أن التدمير الممنهج للجامعات في غزة، وإلحاق الدمار أو التلف بـ80% من مدارس المرحلة الإعدادية أو الثانوية يشكل جريمة "إبادة معرفية"، تُعرَّف على أنها القضاء بصورة ممنهجة على التعليم بشتى أشكاله.

وحتى من تسنت لهم مغادرة غزة يواجهون صعوبة بالغة في لملمة شتات أنفسهم وبدء صفحة جديدة، لخسارتهم سبل عيشهم ومدخراتهم. لكن في غمرة الحرب والدمار، الباحثون والمعلمون ورواد الأعمال عازمون على تجاوُز هذه الأزمة. وقد أجرت دورية Nature  لقاءً صحفيًا مع عدد منهم ممن يرفضون التخلي عن الأمل في غزة وإسرائيل ومنطقة الضفة الغربية الفلسطينية. على سبيل المثال، باستخدام ألواح شمسية وهواتف محمولة استُنقذت من وسط هذا الدمار، يشارك العلماء المنكوبين من داخل مساحات عمل في خيام اللجوء في فعاليات للتعلُم عن بعد وجهود تعاوُن بحثي عبر تطبيق «زوم» Zoom، ويستمرون في أداء واجباتهم حتى بعدما مُحيت جامعاتهم ومقار أعمالهم من على ظهر الوجود.

باشر العجرمي عمله كاستشاري في شؤون الاستدامة رغم أنه ترك أسرته خلفه في غزة، ويصف شعوره حيال ذلك قائلًا: "إنه لشعور مؤلم. أفكر فيهم طوال الوقت، لكن ماذا عساي أن أفعل؟".

دعم الطلاب لتجاوز صدمات الحرب

على الجانب الآخر من حدود غزة مع إسرائيل، تسببت الحرب في تعطيل الحياة الجامعية هناك أيضًا. على سبيل المثال، كلية سابير على ضواحي بلدة سديروت في جنوب إسرائيل، والتي لا يفصلها عن غزة سوى ثلاثة كيلومترات ونصف الكيلومتر، أغلقت أبوابها بعد أن تعرضت بلدتي سديروت وأوفقيم لهجمات وحرائق شنتها حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي. وحسبما يفيد أومري هرتسوج، عميد الكلية، المتخصص في تدريس الثقافة والأدب، كان كثير من الطلاب يقطنون في مساكن طلاب في المستوطنات الإسرائيلية التسعة عشر التي دُمرت إلى حد كبير هناك.

ويسترجع هرتسوج تلك الأحداث قائلًا: "في الأسبوع الأول بعد هجمات السابع من أكتوبر، كنت أعمل بلا توقف". ويوضح أنه عمد مع زملائه إلى التواصل مع طلاب الكلية البالغ عددهم 8 آلاف طالب، ومع أعضاء هيئة تدريسها البالغ عددهم 900 عضو للتحقق من سلامتهم، ليتبين له مقتل 34 شخصًا من طلاب الكلية وأعضاء تدريسها وخريجيها، فضلًا عن اختطاف اثنين من الملتحقين بالكلية من قِبل حركة حماس، قُتل أحدهم لاحقًا. ولا يزال الآخر في الأسر. كذلك فرّ حوالي 1500 طالب وعضو هيئة تدريس من مناطق سكنية مجاورة من منازلهم بعد أن تعرضت للحرق، "دون أي شيء، خلا ملابسهم"، بتعبير هرتسوج. وفي أواخر ديسمبر من العام الماضي، بحسب ما يوضح هرتسوج، أعادت الكلية فتح أبوابها لطاقمها الإداري. وبعد مضي أكثر من عام، أخذ طلاب كلية سابير لتوهم في العودة إلى الحرم الجامعي لطوال ساعات الدوام به من أجل العام الدراسي الجديد، الذي بدأ شهر نوفمبر الماضي.

ولعلاج أثر هذا الدمار، سعت الجامعة إلى توفير الدعم للطلاب، وأتاحت لكل منهم 12 جلسة استشارة نفسية. تعقيبًا على ذلك، يقول هِرتسوج: "الحرم الجامعي نفسه يتسم بالبهاء، وتعمه الخضرة والأمن".  لكن في الوقت ذاته، حسبما يضيف: "يُمكن سماع دوي القصف الإسرائيلي لغزة، بل ويمكن أحيانًا للمرء أن يشتم رائحة الحرب"، التي يصفها بأنها "رائحة معدنية مقيتة" منبعثة من بقايا المتفجرات.

بعد السابع من أكتوبر، حسبما يفيد هرتسوج، أدركت الجامعة أنها أمام لحظة حاسمة: "إما أن تكون على قدر الحدث، أو تواجه الفناء"، لذا كرست طاقاتها لزيادة ما تقدمه من دعم. على سبيل المثال، تعتزم الجامعة بناء قسم جديد بها لعلوم الصحة، وآخر لدراسة التقنيات المتقدمة، كدراسة علوم البيانات والهندسة وتكنولوجيا الزراعة. كذلك من المزمع أن تتيح هيئة «تيكوما» Tekuma التابعة للحكومة الإسرائيلية، وهي هيئة أُسست بغرض إعمار المنطقة المجاورة لقطاع غزة وتنميتها والاستثمار فيها، دروسًا مجانية لطلاب كلية سابير وأن تضخ تمويلات لإعادة إعمار مساكن الطلاب التي دُمرت.

في ذلك الصدد، يلفت هيرتسوج إلى أن حوالي 20% من طلاب الكلية هم من عرب إسرائيل، وأغلبهم من المجتمع البدوي المحلي وكثير منهم له أقارب في غزة. ويضيف أن التعايُش هو جزء من المبادئ التي تتبناها الجامعة. فيقول: "في هذا الجزء الصغير من العالم، حيث يبلغ التوتر مبلغًا شديدًا، قد تجد تعاونًا بين اليهود والبدو".

رواد الأعمال في مجال التقنيات في غزة يستخدمون مقاهي تتيح الوصول إلى الإنترنت في الخيام (كهذا المقهى في خان يونس)، للعمل على مشروعات.
رواد الأعمال في مجال التقنيات في غزة يستخدمون مقاهي تتيح الوصول إلى الإنترنت في الخيام (كهذا المقهى في خان يونس)، للعمل على مشروعات.
Abed Rahim Khatib/Anadolu/Getty

مثابرة في وجه المحن

ولنا في مهندسو البرمجة الحاسوبية في غزة مثال آخر على الصمود في غمرة فظائع الحرب. فرغم تدمير البِنى التحتية لخدمات الاتصال عن بعد وتقطُع الوصول إلى الإنترنت، يستمرون في البحث عن مهام يجرونها عن بعد.  فيقول آلان القاضي، مدير برنامج «غزة سكاي جيكس» Gaza Sky Geeks، وهو برنامج أطلقته مؤسسة الإغاثة غير الحكومية «ميرسي كور» Mercy Corps، ويقع مقرها في مدينة بورتلاند بولاية أوريجون الأمريكية: "يبقى العمل الرقمي عبر الإنترنت أحد الفرص الواعدة القليلة المتاحة لتحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل لشتى الأطياف في فلسطين".

ويضيف: "يهدف برنامج «غزة سكاي جيكس» إلى المساعدة في بناء اقتصاد قادر على الصمود ويحقق الرخاء للجميع في فلسطين". قبل الحرب، أتاح البرنامج أكاديمية لتعليم البرمجة لطلاب الجامعات في منطقة غزة ومنطقة الضفة الغربية (أكبر منطقة فلسطينية، وتنقسم إلى ثلاث مناطق تخضع إما لسيطرة إسرائيلية أو فلسطينية أو لسيطرة مشتركة بين الجانبين معًا). كذلك أتاحت مبادرة «غزة سكاي جيكس» برنامج تدريبي بهدف مساعدة المشاركين فيه على إطلاق شركات ناشئة خاصة بهم. ويوضح القاضي، الذي يقيم في مدينة رام الله في الضفة الغربية أن مؤسسته درّبت بالفعل أكثر من 20 ألف من شباب الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية على مهارات مهنية مثل البرمجة، والحوسبة السحابية، وتحليل البيانات، ليمكنهم جني الأموال عبر الإنترنت. وكثير منهم الآن يعمل من الخيام.

وبحسب ما يفيد القاضي، قبل الحرب، كانت غزة قد بدأت تحظى باهتمام دولي كسوق عمل يُوظف منها أبرع المبرمجين ومصممي الجرافيك ومترجمي المحتوى على الإنترنت.  لكن بعد السابع من أكتوبر، "بلغت قسوة الأوضاع في غزة مبلغًا يفوق الوصف"، بتعبيره. فمواطنو القطاع يكابدون في الخيام الدمار والقصف والأمراض والجوع.

وقد دُمرت جميع مكاتب مبادرة «غزة سكاي جيكس» في غزة، وأوقفت المبادرة جميع برامجها للتدريب على استخدام التقنيات، والآن تركز على توسعة نطاق أنشطتها في الضفة الغربية وعلى مساعدة عدد من شركات التقنيات على دخول أسواق دولية جديدة.

واستطرد القاضي: "لكن الملهم هنا هو أن عديدًا من هؤلاء [المتدربين] تمكنوا من الاحتفاظ بحاسباتهم المحمولة"، حتى في أثناء الفرار من الدمار والانتقال للعيش في خيام.  فجميعهم يرغب في الحصول على دخل، لأنه في أمس الحاجة إلى المال". ويشير إلى أن العاملين في مبادرة «غزة سكاي جيكس» قد أسسوا بالفعل عدة مساحات عمل مشتركة ومؤقتة في الخيام بغزة.

ويتفق مع القاضي في الرأي، شادن طُبيلة، منسقة العلاقات العامة والتواصل في مؤسسة «غزة سكاي جيكس»، إذ ترى أن الخريجين في غزة حريصون كل الحرص على العودة إلى سوق العمل. وتفيد بأن جامعة بيرزيت في رام الله في الضفة الغربية قد أخذت في إتاحة دوراتها المقدمة عبر الإنترنت للفلسطينيين في غزة. وتقول: "ما إن افتُتح باب التسجيل، امتلأت غالبية الفصول الدراسية بطلاب من غزة" يحضرونها عن بُعد. وتضيف: "هم يتحرقون شوقًا لاستعادة سير حياتهم السابق، والعودة إلى أعمالهم ودراساتهم".

تعقيبًا على ذلك، يقول القاضي: "نحن كعاملين تحت إطار أحد برامج مؤسسة «ميرسي كور»، علينا أن نتحلى بالتفاؤل، وجميعنا ينتظر وقف إطلاق النيران.  فإن تحقق ذلك، سنعيد تفعيل برامج «غزة سكاي جيكس» فورًا".

جهود لنزع فتيل التوتر

في شمال إسرائيل، اشتد خلال شهر سبتمبر الماضي الصراع الدائم الدائر بين إسرائيل وجماعة حزب الله المسلحة. وعلى خلفيته، شنت إسرائيل هجمات ضد الجماعة في لبنان، ليرد حزب الله بهجمات مضادة.  وأسفر ذلك عن إجلاء واسع النطاق للمجتمعات على كلا جانبي الحدود بين إسرائيل ولبنان. كما أنه عزز احتمالية تعرُض مدينة حيفا الإسرائيلية الواقعة على مبعدة 40 كيلومترًا من النزاع لهجمات الصواريخ. كذلك نوهت أيلات فيشمان عميد شؤون طلاب معهد التخنيون إلى أن طالبَين والعديد من أفراد أسر طلاب معهد التخنيون (معهد إسرائيل التكنولوجي) وأعضاء هيئة تدريسه قد راحوا ضحايا لإطلاق النيران خلال السابع من أكتوبر وخلال الحرب الدائرة.

وتضيف فيشمان أن نحو 28% من طلاب معهد التخنيون هم من عرب إسرائيل، ولفتت إلى أن المعهد لم يشهد إلا عددًا قليلًا من النزاعات بين الطلاب العرب واليهود، فغالبية طلابه يركزون على دراساتهم في مجالي العلوم والهندسة.

رغم ذلك، أوضحت أن المعهد يتخوف من نشوب توتر في حرمه الجامعي. من ثم، عيَّن  مؤسسة غير ربحية، باسم «أكورد» aChord، ومقرها القدس، وهي مؤسسة لتعزيز التسامُح والاحترام بين فئات مجتمع إسرائيل، لتهيئة طاقم الجامعة لاستقبال العام الدراسي. وتتبنى المؤسسة نموذجًا تصنيفيًا لونيًا يشبه إشارات المرور لتنظيم الحوار، يميز بين "الخطاب العنيف العنصري التهديدي" (ويؤشِر عليه اللون الأحمر)، و"الخطاب الازدرائي" (ويؤشِر عليه اللون الأصفر)، و"الحوار الديمقراطي"، (ويؤشر عليه اللون الأخضر). كما تشجع طاقم المعهد على التدخل حال استخدام لهجة غير مقبولة في المناقشات داخل الفصول الدراسية، أو في أروقة المعهد.

بالإضافة إلى ذلك، حسبما أفادت فيشمان، في مايو الماضي، أطلقت الجامعة برنامجًا لبناء مجتمع داخل حرمها الجامعي، يتبادل فيه الطلاب من مختلف الفئات وجهات نظرهم، ويشاركون في أنشطة معًا، كالحديث عن العطلات والتقاليد، والثقافات والطعام. كذلك يُعلِّم الطلاب المتحدثين بالعربية هذه اللغة لنظرائهم كجزء من البرنامج. حول ذلك، تقول فيشمان: "نهدف إلى مساعدة الطلاب على الشعور بالانتماء للمعهد"، حتى في غمرة الصدمات والاضطرابات.

أما في الضفة الغربية، فحسبما توضح منى نبيل ضُميدي، عميدة كلية العلوم الرقمية بالجامعة العربية الأمريكية في جِنين بالضفة، تعترض تحديات جسام دراسة العلوم والتكنولوجيا. ويُذكر في هذا الإطار، أن نبيل ضميدي، هي متخصصة في علوم الحاسوب، وتدير أيضًا شركة التقنيات « ستيمباير» STEMpire، وهي شركة متخصصة في دعم منظومات العمل بالذكاء الاصطناعي، تأسست عام 2020.

وتدير الشركة مسابقات ابتكار تمتد لثلاثة أيام، وبرامج تدريب مكثفة، يتواصل فيها الخريجون في مجال التقنيات مع مشرفين من القطاع الخاص، للعمل على الخروج بحلول لمشكلات حقيقية. كذلك نظمت ضميدي العام الماضي مسابقة إبداعية للخروج بحلول مناخية، ابتكر فيها ثلاثون طالبًا من غزة والضفة الغربية استراتيجيات للعمل المناخي ولتحسين جودة مياه الشرب.

وتشير ضُميدي إلى أن حوالي 70% من الصفوف التعليمية التي درستها في جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس بالضفة الغربية - حيث عملت بالتدريس سابقًا - تنعقد دوراتها عبر الإنترنت، حتى من قبل السابع من أكتوبر. ومنذ بدء الحرب، يضطر الطلاب الوافدون من خارج مدينة نابلس إلى الانتظار عند نقاط التفتيش الإسرائيلية ما بين ساعتين إلى ثلاث ساعات في المتوسط للوصول إلى حرم الجامعة. وهذا "إن حالفهم الحظ"، بحسب ما تضيف ضميدي. كذلك يواجه الطلاب الفلسطينيون في الضفة الغربية خطر الغارات التي تشنها قوات الدفاع الإسرائيلية، والتي سبق أن شنتها القوات بالفعل على جامعة النجاح في يناير الماضي.  تعقيبًا على تلك التجربة، تقول ضُميدي: "لم يكن هذا آمنًا لنا أو للطلاب".

تعاوُن يتجاوز الحدود

يفيد جيه وهو عالم متخصص في الدراسات البيئية من إحدى الجامعات البحثية في إسرائيل، جمعه تعاوُن بحثي وثيق مع زملاء في غزة (طلب عدم الإفصاح عن هويته لحماية معارفه الفلسطينيين) بأن طلابًا عديدين من غزة قد عمدوا قبل الحرب وفي بدايتها إلى تحميل نسخ من سجلاتهم الدراسية الجامعية وعدد من الوثائق الضرورية كنسخ جوازات السفر وشهادات الميلاد، على خدمات حوسبة سحابية على الإنترنت. وهو يوصي بأن يحفظ كل باحث بياناته الحيوية على النحو نفسه.  

وقد ساعد طالبَ درجة ماجستير في الهندسة من غزة يُدعى محمد على جمع أموال عبر منصة «جو فاند مي» GoFundMe لمغادرة المنطقة مع عائلته. وشأنه شأن جيه، طلب محمد، الذي كان يدرس في جامعة الأزهر في غزة قبل تدميرها، الإفصاح عن اسمه الأول فقط لدواعي متعلقة بالحفاظ على سلامته. قبل الحرب، تعاون الباحثان في عدد من المشروعات لوضع خريطة لمصادر النفايات الإلكترونية والتلوُث في غزة. وبعد السابع من أكتوبر، شرعا في وضع خريطة للتلوث المنقول جوًا في غزة، بأخذ عينات من ستة أو سبعة مواقع، اختُزنت فيها المواد الكيماوية أو أُحرقت فيها الشقق السكنية أو سُحقت مبانيها الخرسانية.

وعن التعاوُن بينهما بعد الحرب، يقول جيه: "دربت محمد عبر تطبيق «زوم» Zoom على استخدام برمجية نظم معلومات جغرافية أستخدمها". فمن حطام منزله، حمل محمد معه أحد الألواح الشمسية لشحن هاتفه الجوال للتواصل. وقد كانت خدمة الإنترنت في الاتصالات بينهما بطيئة للغاية. ويصف جيه جلساتهم الفنية الطويلة على الإنترنت بأنها مفعمة بالتوتر، إذ تجنب كل منهما الحديث عن تجربته الغريبة لأنه لم يعرف كم من الوقت ستستمر خدمة الإنترنت لديه. ومن وقت لآخر، كان محمد يعتذر بسبب أصوات القصف.

ويذكر أن محمد وزوجته وابنتهما الرضيعة قد اضطُروا إلى ترك منزلهم للانتقال إلى العيش في مكان آخر لثمان مرات، آخرها كانت للانتقال إلى مدينة دير البلح وسط غزة. تعقيبًا على ذلك، يقول محمد: "نُضطر إلى النزوح عن منزلنا في كل مرة يستقر فيها المقام بنا في مكان، وهذا مؤلم جدًا باختصار". لكن بمساعدة أصدقاء ومتبرعين، جمع محمد مؤخرًا أكثر من 95 ألف دولار أمريكي لدفع الرسوم الباهظة التي يكبدها العبور مع عائلته إلى مصر، وما يتصل به من تكاليف. لكن في اليوم الذي تمكن فيه من جمع المبلغ المنشود شهر مايو الماضي، أغلقت القوات الإسرائيلية الحدود مع مصر عند معبر رفح.

حول ذلك، يقول محمد: "لا يمكنني المغادرة أو العثور على مكان آمن للعيش. إنه لكابوس مخيف". رغم ذلك، يتلقى في الوقت الحالي مع زوجته، وهي بدورها طالبة لدرجة الماجستير في الهندسة، دورات في مجال تعلُم الآلة على الإنترنت. وهو ما يعلل له محمد قائلًا: "ما زلنا نعقد آمالًا على فتح الحدود ليمكننا المضي في حياتنا".

ويحاول جيه مساعدة محمد وزوجته على الالتحاق ببرامج تؤهل للحصول على درجة الدكتوراة في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة أو إيطاليا، رغم علمه بأن هذا سيسهم في هجرة الكفاءات من غزة. فيقول حول ذلك: "ولائي الأول لهم، كأشخاص".

ويضيف: "خسارة المواهب تثير استيائي وتحزنني كثيرًا.  وأنا موقن من أن هؤلاء الشباب قادرون على [إنجاز] الكثير، إن اختلفت الظروف"، ويلفت إلى سجلاتهم الدراسية وسيرهم الذاتية المبهرة، ويجد مثابرتهم برغم الظروف مثيرة للإعجاب.

أما الضميدي، فتفيد بأن إظهار هذه القوة في مواجهة الشدائد سمة معهودة بين أهل غزة. ورغم خسائر الأرواح وحجم الدمار الهائل الذي يكاد لا يصدقه عقل، تؤكد على أن الوسط الأكاديمي في غزة "ينتظره مستقبل واعد" ما أن تتوقف الحرب. فتقول: "عملت مع الجيل الجديد في الضفة الغربية وفي غزة. وأرى أن أهل غزة يتمتعون بقدرة فائقة على الصمود. فهم أسرع من عرفت في ابتكار الحلول. وهم متشبثون بالبقاء".

Nature 634, 501-503 (2024)

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.337