أخبار

تحديات إعادة تشكيل الجينوم

نشرت بتاريخ 16 مارس 2025

يتمتع اختصاصيو البيولوجيا التخليقية بما يلزم من معرفة وطموح لإعادة تشكيل جينومات كاملة، لكنهم يصطدمون بالمفاجآت التي يفجرها التعقيد الكامن في الأنظمة البيولوجية.

مايكل آيزنشتاين

حقوق نشر الصورة: Malte Mueller/Getty Enlarge image

حينما يتطرق باتريك ييجي تشاي إلى النظر في ما وصل إليه علم الجينوم التخليقي، يستحضر ذهنه أحداث «المسابقة الكبرى لتخليق الحمض النووي» Big DNA Contest. انطلقت المسابقة عام 2004. وقامت على طرح تحدٍ أمام باحثي البيولوجيا التخليقية، يتمثل في تصميم تسلسل حمض نووي جديد وفعّال من 40 ألف زوج قاعدي، على أن تموِّل الجهة الراعية للمسابقة، شركة تخليق الحمض النووي الأمريكية «بلو هيرون بيوتِك» Blue Heron Biotech (وتحمل حاليًا اسم «يوروفينز جينوميكس بلو هيرون» Eurofins Genomics Blue Heron)، تصنيع النموذج الفائز دون مقابل.

ولم تكن الجائزة المعروضة بالهيّنة. فمقطع حمض نووي بسيط كذاك (يقل طوله عن 1% من طول جينوم البكتيريا الإشريكية القولونية Escherichia coli) كانت تكلفة إنتاجه آنذاك لتناهز 250 ألف دولار أمريكي. هَدفت الشركة من خلال هذه المسابقة إلى تنشيط مجال البيولوجيا التخليقية الذي كان إلى ذلك الوقت مجالًا وليدًا. لكن، كما يقول تشاي، وهو باحث بمجال البيولوجيا التخليقية من جامعة مانشستر البريطانية: "في النهاية، لم تتلقَّ الشركة أية طلبات للتقدم للمسابقة. ولا يدلنا ذلك إلا على أن أحدًا لم يتمتع بما يكفي من الخيال قبل 20 عامًا لتصميم حمض نووي مُخلق، ولو أُتيح له ذلك مجانًا".

أما اليوم، فنشهد تقدمًا بخطى مطردة في علمَيْ الجينوم والبيولوجيا الحاسوبية، علاوةً على التقدم المشهود في تخليق الحمض النووي وتركيبه، ما أسفر عن أمثلة متعددة لما يمكن للمحاولات الابتكارية الطموحة تحقيقه في مجال كتابة الجينوم. من هذه الأمثلة السلالة البكتيرية المُخلقة JCVI-syn3A»»، التي طوّرها معهد «جيه كريج فينتر» (JCVI) الكائن مقره في حي لاهويا بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وهي نسخةً مُحسنة ومبسطة من سلالة بكتيريا المفطورة الفُطرانية Mycoplasma mycoides، عاشت وتكاثرت رغم حذف عدة مئات من الجينات غير الضرورية منها1. كذلك تعمل فرق بحثية متنوعة اليوم على هندسة سلالات من البكتيريا الإشريكية القولونية خضعت لتغيير شفرتها الجينية، بحيث يمكنها أن تنتج بروتينات تحتوي على عدد أكبر من الأحماض الأمينية، يجاوز العشرين حمضًا أمينيًا التي تُرصد عادةً بين السلالات الطبيعية. وجديرٌ بالذكر أن «المشروع الدولي لإنتاج جينوم الخميرة المخلقة» (Sc2.0) قد انتهى العام الماضي من إنشاء نسخ خضعت لتعديلات وراثية مكثفة من كل كروموسوم في خميرة البيرة الفطرية السكرية حقيقية النواة Saccharomyces cerevisiae، لتتضمن هذه النسخ حوالي 12 مليون زوج قاعدي إجمالًا.

وقد قدمت هذه الجهود لنا دروسًا لا تُقدَّر بثمن، حسبما يرى أكوس نيرجِس، الباحث في علم الجينوم التخليقي، والذي شارك في جهود إعادة كتابة جينوم البكتيريا الإشريكية القولونية في مختبر «جورج تشرتش» بكلية هارفارد للطب في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية. فيقول نيرجس: "يمكننا الآن محاكاة وتجريب خطوات تطورية كانت نشأتها بالطرق الطبيعية لتستغرق مليارات السنين، أو ربما لم تكن لتحدث أبدًا". غير أن الجهود المبذولة كشفت أيضًا كم أننا لا نزال بحاجة إلى فهم أعمق للغة الأساسية للجينوم. فحتى الآن، اصطدمت الجهود في جميع برامج إعادة كتابة الجينوم بتحديات كبيرة وغير مُتوقعة، ولا يزال مجال الجينومات المُخلقة حسب الطلب أرضًا غيرَ مطروقة. فبتعبير نيرجِس، الباحثون "أبخسوا تقدير حجم التعقيد البيولوجي" الذي تتسم به الجينومات الخاضعة لتعديلات كثيفة.

عودةٌ إلى الأسس

تنطلق معظم مشروعات علم الجينوم التخليقي من "الكل إلى الجزء"، بمعنى أنها تتناول بالدراسة كائنًا حيًا موجودًا في الطبيعة؛ فتعمل على اختزال حمضه النووي أو إعادة تصميم هذا الحمض. ويشكل هذا النهج إطار عمل مبدئي ثمين، يختلف عنه في مقاربات "الجزء إلى الكل"، التي تستهدف بناء جينوم نشط من الصفر. وعلى كل، كما يفيد فارين آيزاكس، اختصاصي هندسة الجينوم من جامعة ييل في مدينة نيو هايفن بولاية كونيتيكيت الأمريكية، فيما يخص التلاعب بالجينوم، ثمة مجال محدود إلى حد مدهش لارتكاب الأخطاء" ما يوضحه آيزاكس قائلًا: "إذا ارتكبنا خطأً في جين أساسي بالكائن الحي، فسوف نقضي على هذا الكائن".

ومن الأهداف الأساسية لمشروع «معهد جيه كريج فينتر» و«المشروع الدولي لإنتاج جينوم الخميرة المُخلقة» تحديدُ الجينات التي تُعد أساسيةً حقًا، فمما يثير العَجب أن التنبؤ بهذه السمة ليس باليسير. فيقول جون جلاس، وهو قائد برنامج البيولوجيا التخليقية بـ«معهد جيه كريج فينتر»، إنه وفريقه لاحظوا، عند نشرهم2 تقريرَهم لعام 2016 عن خليتهم المُبسطة الأولى، أن نحو ثلث الجينات المتبقية في الخلية (149 من أصل 473 جينًا) لم تكن لها وظيفة معروفة، إلا أنه يستدرك قائلًا: "يمكنني القول بأن هذا العدد قل إلى 78 جينًا الآن".

ولكي يتمكّن الباحثون في المشروعيْن من الوقوف على الجينات الضرورية، استخدموا طفرات عشوائية مُخلَّقة، في عملية تقوم بالأساس على إدخال اضطرابات في أنحاء غير محددة من الجينوم على امتداده، ليتصدوا بعدها لدراسة أيّ الاضطرابات يمكن للخلايا تحمُّله وأيُّها يؤدي إلى إضعاف شديد لوظائف الخلايا وقدرتها على البقاء.

غير أن مفهوم الجينات "الضرورية" غامض؛ لا سيّما بالنظر إلى أن معظم الجينومات تحتوي على عناصر متكررة وآليات “حماية من الأعطال الوظيفية” تستهدف الحد من تأثير الطفرات المفردة. وقد واجه جلاس وفريقه البحثي عشراتُ الحالات التي كشفت فيها الطفرات المُخلَّقة عن أزواج من الجينات التي تبدو مختلفة عن بعضها بعضًا، لكنها تخالف التوقعات ويتضح أنها تشترك في أداء وظائف معينة. من هنا، كما يوضح جلاس، تبين أنه لا يوجد شكل واحدة للجينوم الأبسط، فيقول: "عندما تحذف [جينًا] واحدًا، فسوف تجد نفسك مع كل جين تختاره أمام مسار مختلف يقودك إلى شكل مختلف قليلًا للخلية الأبسط". فضلًا عن ذلك، هناك العديد من الجينات البكتيرية التي تؤدي وظائف متعددة، ما يزيد من تعقيد مهمة الوقوف على الوظائف الرئيسية لها. وهنا يضرب جلاس مثلًا بالإينولاز، وهو إنزيم ذو دور معروف في أيض الكربوهيدرات، كما يلعب دورًا آخر اتضح فيما بعد، هو الإسهام في تحلل الحمض النووي الريبي غير المرغوب فيه.

ولعلّ بإمكان "النماذج الحوسبية لتحليل الخصائص على مستوى الخلية"، بما تشهده من تطوُر متزايد، أن تساعد في فك بعض الغموض الذي تواجهه الجهود المستقبلية الرامية إلى تنقيح الجينوم. نذكر هنا أنه في عام 2020، قادت كلٌ من لوسيا ماروتشي، الباحثة بالرياضيات، وكلير جريرسون، الباحثة بمجال البيولوجيا التخليقية، وكلتاهما من جامعة بريستول بالمملكة المتحدة، جهودًا رامية إلى إعداد محاكاة لاستراتيجيات اختزال الجينوم في نموذج لخلية كاملة من بكتيريا المفطورة التناسلية Mycoplasma genitalium؛ وهي بكتيريا تجمعها قرابة تطورية وثيقة بالبكتيريا الدقيقة التي تولى تحريرها مشروع «معهد جيه كريج فينتر»3. استخدمت الباحثتان في دراستهما التحليلية نماذج تفصيلية للعمليات الخلوية وتفاعلاتها بهذه البكتيريا، وخلُصت الدراسة إلى تصميميْن جديديْن للخلية يتضمنان حذف مجموعات محددة من الجينات؛ لينتُج عن كلٍ من التصميمين جينومات أصغر بنسبة تقارب 40% مقارنةً بالجينوم الطبيعي للمفطورة التناسلية.

 كذلك بدأت ماروتشي وجريرسون مؤخرًا إجراء أبحاث على نماذج معقدة للخلية الكاملة للبكتيريا الإشريكية القولونية. وبحسب مسوّدة بحثية أصدرتها الباحثتان في عام2024  4، فإن جهودهما تستخدم مقاربة تجمع بين نمذجة الأليات الخلوية وتعلّم الآلة للتنبؤ بتأثيرات التلاعب بالجينوم على مجموعة واسعة من الوظائف البيولوجية. وقد جرى توصيف هذه الوظائف باستخدام آلاف من المعادلات المترابطة، لتنتُج في النهاية مخططاتٌ للبكتيريا تتضمن عدد جينات أقل بنسبة 40% مما يوجد في البكتيريا الإشريكية القولونية من النوع البري. فتقول ماروتشي: "لدينا الآن مجموعة من الجينومات المختزلة إلى أدنى حد، ونتطلع إلى اختبار أداءها بالمختبر".

استبدالٌ سهل أم عملية معقدة؟

عوضًا عن إنتاج نُسَخ مختزلة من الجينوم، شرعت فرق بحثية أخرى في عملية دقيقة لإعادة كتابة النص الجيني، لتواجهها مجموعة مختلفة كليًا من التحديات.

تتألَّف التسلسلات المُرمِّزة للبروتينات من وحدات من ثلاث قواعد نيوكليوتيدية، تُعرَف باسم الكودونات. وحيث أن عدد الكودونات التي يمكنها تشفير الأحماض الأمينية العشرين الموجودة في الطبيعة يصل إلى 61 كودونًا، فضلًا عن ثلاثة كودونات "ختامية" تعمل على إنهاء عملية تركيب البروتين، فإن الشفرة الجينية الناتجة عن هذه الكودونات تكون محتوية على كثير من التكرارات الجينية. وقد أثبتت فرق بحثية عديدة أنه بتحويل كودون معين في كل موقع من الجينوم إلى أحد الكودونات "المرادفة" له، يمكن تغيير وظيفة هذا الكودون. على سبيل المثال، هذا الشهر، قدم آيزاكس وفريقه البحثي توصيفًا لسلالة من البكتيريا الإشريكية القولونية تُسمى «أوكْر» Ochre، غيروا فيها وظيفة كودونَيْن ختاميين لتوجيه إدماج الحمضيْن الأمينيّيْن غير الطبيعييْن para-acetyl-L-phenylalanine وNε-Boc-L-lysine5 في تركيب البروتينات التي يجري ترميزها. إذ يتميز هذان الحِمضان بخصائص ووظائف كيميائية لا توجد في الطبيعة. غير أن إعادة تشفير الحمض النووي هنا يمكن أن تؤمن "جدار حماية" يمنع التفاعل وتبادل المواد الجينية مع الكائنات الحية الأخرى في البيئات الطبيعية.

قد يبدو إنجاز كهذا بسيطًا، إذ يقتصر على استبدال كودونٍ بآخر؛ لكن عملية إعادة تشفير الجينوم تتطلب الكثير من التخطيط والجهد. فبعدما يقف الباحثون على جميع الحالات التي يظهر فيها الكودون الذي يرغبون في حذفه، يتعين عليهم بعدئذ الوصول إلى الكيفية التي يمكنهم بها استبدال الكودون دون إدخال اضطرابات على الجينات أو الآليات التنظيمية المتأثرة بهذا الاستبدال. وهنا يشير نيرجِس إلى أن جينات البكتيريا تحتوي عادةً على تسلسلات منظمة للتعبير الجيني في تسلسل تشفير البروتين، ويمكن أن يتقاطع موقع أحد الجينات الموجودة في إحدى جدائل الحمض النووي مع موقع جين آخر موجود في الجديلة المقابِلة. وبناءً على ذلك، يبدو أن التغيّرات الطفيفة قد تحمل معها عواقب كبرى غير مُتوقعة.

يعمل نيرجِس وتشرتش وفريقهما البحثي على التصدي لهذا التحدي على نطاقٍ غير مسبوق، فهم بصدد الانتهاء من كتابة النص الجيني لسلالة متحورة من البكتيريا الإشريكية القولونية، خضعت لإعادة تشفير مكثفة، ولا تستخدم سوى 57 من أصل 61 كودونًا من الكودونات المرمزة للأحماض الأمينية الموجودة في الطبيعة6. وقد تضمنت هذه الجهود إدخال أكثر من 73 ألف تغيير في جينوم السلالة المتحورة، والذي يحتوي على أربعة ملايين قاعدة نيوكليوتيدية، ما من شأنه أن يسفر حتمًا عن تغييرات غير مقصودة. في ذلك الصدد، يقول نيرجِس: "بعض هذه التأثيرات سيمرّ مرور الكرام، دون أثرٍ على النمو أو القدرة على البقاء على قيد الحياة والتكاثر، في حين سيكون للبعض الآخر أثرٌ لافت". وقد أدى بعض التغييرات المُدخلة إلى تعطيل عناصر قائمة منظِّمة للتعبير الجيني، أو إلى إنشاء عناصر جديدة بغير قصد، فيما أدى البعض الآخر إلى تأسيس تسلسلات جديدة لترميز البروتينات، "واكتشاف هذه التأثيرات لا يتأتى لنا إلا بمحض المصادفة"، حسبما يفيد نيرجِس.

نماذج أُنتِجت باستخدام الحاسوب لخلية مُخلّقة مُبسطة، أنشأها الباحثون بـ«معهد جيه كريج فينتر» في حي لاهويا بولاية كاليفورنيا الأمريكية.

نماذج أُنتِجت باستخدام الحاسوب لخلية مُخلّقة مُبسطة، أنشأها الباحثون بـ«معهد جيه كريج فينتر» في حي لاهويا بولاية كاليفورنيا الأمريكية.
Credit: Laboratory of Zaida Luthey-Schulten

ويُعد حل هذه الإشكاليات في حد ذاته مهمة كبرى. فمثلًا، استخدم آيزاكس وفريقه البحثي، على مدار عملية تغيير الشفرة الجينية لسلالة «أوكْر»، تحليلات مكثفة "متعددة الأوميات" (تُعنى بجميع الخصائص الجينية والجزيئية) بهدف الوقوف على سمات هذه البكتيريا. ففي ذلك الصدد، يقول آيزاكس: "جمَعْنا بيانات الخصائص الأيضية تحت ظروف [استنبات] مختلفة. كما جمعنا بيانات الخصائص البروتيومية مع مقارنة الخلية المُعاد تشفيرها بمجموعة محدودة من أسلافها، مثل خلايا النوع البري". بهذه الطريقة، تمكَّن الباحثون من تعديل الجينوم بشكلٍ منهجي، إلى أن تمكّنت خلايا البكتيريا من النمو تحت الظروف القياسية للاستنبات، بمعدل يكاد يماثل ذلك الذي تنمو به خلايا البكتيريا غير المُعدَّلة. وهي نتيجة لا يُستهان بها، بالنظر إلى أن إعادة تشفير الجينوم تؤدي عادةً إلى عرقلة النمو. وبالمثل، اتجه نيرجِس وفريقه البحثي إلى إجراء دراسات متعددة الأوميات لاستكشاف وحل المشكلات الكامنة في الجينوم الذي ابتكروه ذي الكودونات السبعة والخمسين. كما استخدموا استراتيجية تجريبية تحفّز التطور السريع للبكتيريا في بيئة الاستنبات، بهدف دعم عملية انتخاب الطفرات الجينومية التي تعزز القدرة على البقاء والتكاثر.

يُذكر أن الأدوات الخوارزمية تساعد الباحثين كذلك في نمذجة نتائج بعض تجارب إعادة كتابة الجينوم، والتنبؤ المسبق بهذه النتائج. من الأمثلة الدالة على ذلك الدراسة التي أجراها هوارد ساليس الباحث بمجال البيولوجيا التخليقية مع فريقه البحثي بجامعة ولاية بنسلفانيا في منطقة يونيفرسيتي بارك الأمريكية، وهي دراسة تستخدم بيانات كَمّية مُستقاة من فحوص عالية الإنتاجية لكلٍ من الخلايا المُعدَّلة جينيًا وجدائل الحمض النووي المُخلق، بغرض تطوير خوارزميات يمكنها التعرّف على التسلسلات المنظمة لعمليات مثل النسخ والترجمة، فضلًا عن تحديد سمات هذه التسلسلات، بل وتصميمها. في هذا السياق، يقول ساليس: "نرى أن ما تتضمنه الورقة البحثية العادية في عصرنا هذا من تجارب في هذا الإطار يتراوح ما بين 10 آلاف إلى 100 ألف تجربة مختلفة محددة السمات والتصميم". وقد استخدم الباحثون نتائج دراستهم في استخلاص مبادئ فيزيائية يمكن اختبار صحتها، تتيح للخوارزميات التنبؤ، مثلًا، بالكيفية التي تؤدي بها التغيرات الحادثة في تسلسل محفز جين بعينه إلى تغيير عمليات التعبير الجيني التالية.

حول هذه المنهجية، يقول ساليس: "يمكننا أن نرتكز على أساس من الصحة في كل شيء، كما يمكننا أن نجمع معطيات النماذج المتوفرة لدينا لتصميم التجارب القادمة، بغرض فهم بقية ما التُبس علينا". في الواقع، استخدم «مختبر تشرتش» العديد من أدوات ساليس في تصميم الميكروب الخاص به ذي الكودونات السبعة والخمسين. ويفيد نيرجِس بأن هذه الخوارزميات أصبحت من الأصول بالغة الأهمية، على أنها غير كافية لأن تغني عن الحاجة إلى قدر كبير  من عمليات تقصي الأخطاء ومعالجتها. ويستطرد: "حتى التغييرات الطفيفة يمكن أن تشكل، مع تراكمها بإضافة آلاف الجينات بالجينوم، عقبات كبيرة أمام قدرة الخلية على البقاء والتكاثر".

خطى على طريق دراسة حقيقيات النوى

تتميز الجينومات البكتيرية بصِغَر حجمها وباكتفائها الذاتي، لذا تُعد مثالية كنماذج لاختبار فعالية ما يجري تطويره من أدوات علم الجينوم التخليقي. لكنَّ التقدم الملحوظ الذي أحرزه فريق «المشروع الدولي لإنتاج جينوم الخميرة المُخلقة» يثبِت إمكانية تحقيق إنجازات مشابهة في حقيقيات النوى.

يحتوي جينوم خميرة البيرة الفطرية السكرية على أكثر من 12 مليون قاعدة نيوكليوتيدية تمتد عبر 16 كروموسوم خطي؛ على عكس البكتيريا الإشريكية القولونية التي لا يوجد بها سوى كروموسوم حلقي واحد يتكون من حوالي 5 ملايين زوج قاعدي. ومنذ عام 2011، عمد فريق «المشروع الدولي لإنتاج جينوم الخميرة المُخلقة»، تحت قيادة جيف بوكي، اختصاصي علم الوراثة من جامعة نيويورك الأمريكية، بصورة ممنهجة إلى وضع التصميم الجديد للنسخ المُخلقة من جميع كروموسومات تلك الخميرة، فضلًا عن تشكيلها وتصحيح الأخطاء الموجودة بها. وشملت أهداف الفريق إعادة تشفير الجينوم لتحرير كودون واحد من الكودونات الختامية الثلاثة، بهدف استخدامه لأغراض بديلة، وحذف الجينات القافزة والعناصر المتنقلة الأخرى، ونقل جميع الجينات التي تشفّر الأحماض النووية الريبية الناقلة إلى "كروموسوم جديد"، يُستحدث ليكون السابع عشر بالخميرة المُخلقة.

كذلك استخدم المشروع الدولي نظام تحرير جيني يحمل اسم «SCRaMbLE»، تُحاط فيه جينات الخميرة التي تُعد غير أساسية بتسلسلات معينة من الحمض النووي، تتيح بدورها لإنزيمات اقتطاع هذه الجينات غير الضرورية وإعادة ترتيبها. وقد مكَّن نظام «SCRaMbLE» الفريق البحثي من إنتاج وإجراء اختبارات على الصور المتحورة من كروموسومات الخميرة. وقد احتوت هذه الصور على طفرات حذف لجينات مختلفة وتغييرات في الترتيب البنيوي، لتوفر بذلك أساسًا لاختبار قدرة الخلية على البقاء والتكاثر. يقول تشاي: "في الهندسة، مما يصعب على الخيال تصوره، بناء مليار طائرة ومحاولة جَعلها تطير لترى أيُّها تؤدي مهمتها بنجاح دون اصطدام". رغم ذلك، تمكَّن الباحثون من تحقيق إنجاز مماثل في الهندسة الوراثية للخميرة، من خلال الاستقصاء الممنهج لمدى إمكان تعديل الجينوم قبل تكسُّره.

كان تنفيذ بعض مهام الهندسة الوراثية في الخميرة أيسر منه في البكتيريا؛ فمثلًا اتسمت جينومات الخميرة بازدحام جيني أقل. ما يؤكده بوكي قائلًا: "لم نجد هنالك ما يدل على وجود تداخل بين الجينات أو وجود عوامل تحفيز تدخل في بنية تسلسلات هذه الجينات". ومع ذلك، في تقدير تشاي، انصب ثلثا مجهودات الفريق على تصحيح الأخطاء لا على عملية التصميم الجيني، وكان ظهور مفاجآت أثناء العمل معتادًا. ويضيف بوكي أن العديد من التحديات ظهر أمام الفريق بسبب قصور بيانات توصيف جينوم الخميرة، والتي اعتمد عليها الفريق في بداية جهوده التصميمية، متابعًا: "انطوى كروموسوم واحد على الأقل على الكثير من الأخطاء] في توصيف البيانات[. كما كانت هناك عدة حالات أدى فيها استخدام نظام «SCRaMbLE» في حذف الجينات غير الأساسية إلى تعطيل غير مقصود للوظيفة الجينية أو آلية التنظيم الجيني في جينات أخرى مجاورة ذات أدوار أكثر أهمية في الخلية.

وقد عمد الفريق إلى ضبط دقة تصميماته بالاستعانة بعملية تكرارية قوامها وضع التصميم ثم البناء ثم إجراء الاختبارات. وتقول يوي شين، كبيرة باحثي البيولوجيا التخليقية في شركة «بي جي آي ريسيرتش» BGI Research الكائن مقرها بمدينة شنجن الصينية، والتي عمِلت مجموعتها المخبرية على دراسة ثلاثة من كروموسومات الخميرة للمشروع الدولي: "استخدمنا منهجية التوليف الجيني لتتيح لنا إبدال تسلسل النوع البري خطوةً بخطوة". وهذا أتاح للباحثين الوقوف بدقة على التأثير الناجم عن إعادة تشفير كل مقطع كروموسومي. وبالتوازي مع أبحاث مجموعة شين، استخدم باحثو المشروع الدولي استراتيجية تحليل متعدد الأوميات تشبِه الاستراتيجية المُستخدَمة في البكتيريا، لتشخيص وإصلاح المشكلات التي تهدد صحة خلية الخميرة وقدرتها على البقاء والنمو.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            

لكن المشروع تواجهه تحديات أخرى ممثلة في التصدي لتأثيرات التوافقية التي لا تظهر إلا عند إدخال عدة كروموسومات أُعيدت كتابة شفرتها في خلية في الوقت نفسه. وقد قدم بوكي وفريقه البحثي في عام 2023 توصيفًا لتشخيص وإصلاح خطأ مشابه حدث باستخدام هذه المنهجية، نتجَ عن عدم توافق غير مُتوقع بين الكرموسوميْن المُخلقين III وX، حيث أدى جين مُعدَّل في أحدهما إلى تعطيل ترجمة جين أساسي في الآخر7. ويقول بوكي في ذلك: "نأملُ ألا يظهر عددٌ مفرط من الأخطاء المماثلة". وتمكّن الفريق حتى الآن من تركيب 7.5 كروموسوم مخلق في خلية واحدة، ما يمثّل أكثر من 50% من جينوم الخميرة، ويأمل بوكي أن يستكمل الفريق عملية تجميع جميع الكرموسومات السبعة عشرة خلال الشهور الست المقبلة.

في مفترق طرق

يقف مجال الجينوم التخليقي اليومَ عند مفترقِ طرق؛ فبينما يخطط كثير من الباحثين للتعمُّق أكثر في دراسة نماذج الكائنات الحية التي يختارونها، يتطلع باحثون آخرون إلى استكشاف مناطق بحثية جديدة. على سبيل المثال، تطمح مجموعة تشاي إلى وضع تصميم جديد لكروموسومات الإنسان والبطاطس، في حين تنظر فرق بحثية أخرى في آفاق عمليات تصميم الجينوم التي تبدأ فعليًا من الصفر. ويرى ساليس في هذه الآفاق فرصةً مثيرة للاهتمام لتطوير كائنات حية مُحسَّنة لأغراض بيوتكنولوجية، ما يفتح الباب أمام إجراء بحوث أكثر تعقيدًا بكثير مما يتيحه التلاعب بالجينومات الموجودة بالفعل. ويوضح: "يمكّننا هذا بالأساس من انتقاء العناصر الأفضل للغرض المنشود؛ والأهم أنه ستكون لدينا عندئذ معرفة دقيقة بتبعات التدخلات التي نجريها".

بيدَ أن إحراز تقدم يتطلب حلولًا لبعض التحديات الملحة. ومن أمثلتها، التكلفة الباهظة التي يكبدها تخليق نطاق شاسع من الحمض النووي بدقة. ففي تقدير تشاي، قد تصل تكلفة لبنات الحمض النووي المخلق لأغراض تجارية، والمؤلفة مما يصل إلى 10 آلاف قاعدة نيوكليوتيدية، إلى حوالي 0.10 دولار أمريكي لقاء القاعدة الواحدة. أضِف إلى ذلك أن العديد من جينومات حقيقيات النوى تحتوي على عناصر متكررة يصعُب تخليقها، ويرى تشاي أن تخليق جميع المكونات "يمكن، ببساطة، أن يضاعِف تكلفة المواد المطلوبة لبدء التجربة".

لذا تهدف إحدى مبادرات شين بشركة «بي جي آي ريسيرتش» إلى تطوير حلول قابلة للنشر على نطاق واسع، من أجل تحقيق الكفاءة في إنتاج اللبنات الأساسية في الجينوم8. حول ذلك، تقول شين: "لعلنا نتمكن، كما نأمل، من الانتهاء من العمل على جينوم الخميرة المخلق القادم في غضون عامين أو ثلاثة، وليس خلال 12 عامًا".

ويمكن لخوارزميات التصميم المعقدة التي تتمتع بقدرات تنبؤية أكبر أن تخفّض تلك التكاليف، من خلال إنتاج مخططات جينومية أدق تيسّر عملية اختبار فاعلية التصميم وتحسينه. فمثلًا، أثبتت عدة فرق بحثية قدرة الذكاء الاصطناعي التوليدي على بناء جزيئات حمض نووي وظيفية، استنادًا إلى أنماط تعلَّمها من مجموعات بيانات التسلسل الجيني الشاسعة التي تدرب عليها. رغم ذلك، يتخوف ساليس من الاعتماد بدرجة أكبر من اللازم على الذكاء الاصطناعي، فيقول: "لم يعُد الذكاء الاصطناعي جزءًا من العلم؛ بل هو - حرفيًا - صندوق أسود". لكنه يأمل، بدلًا من ذلك، أن يشهد تقدمًا في بناء نماذج تعلم آلة ميكانيكية، تُدرَّب على تجارب واضحة المعالم ذات توصيف بياني دقيق، وإن كانت هذه العملية بطيئة ومكلفة. ويقدر ساليس أن نماذج الجينومات المعقدة لحقيقيات النوى "يرجح أنها متأخرة بما يقارب 25 عامًا" عن نظيراتها من النماذج الميكروبية.

ومع كل هذه التحديات، لا يزال المجال زاخرًا بالفرص. فمثلًا، يشبه تشاي آخر ما وصل إليه مجال البيولوجيا التخليقية من تقدم "بالفتوحات" الأولى في مجال التشفير الحاسوبي، ما يوضحه قائلًا: "فيما مضى، لم يكن أمامنا إلا محاولة كتابة أكواد التطبيقات وترجمة لغتها البرمجية إلى أوامر، ثم التعلل بأمل ألا تنطوي على أخطاء. لكن أظن أنك ما أن تجاوِز هذه المرحلة الأولية البدائية من التشفير، ستنتج في المرحلة التالية تصميمات أدق بكثير في تحقيقها لمقاصدك".

هذه ترجمة للمقال الإنجليزي المنشور في دورية Nature بتاريخ 18 فبراير عام 2025.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.30


1.        Breuer, M. et al. eLife 8, e36842 (2019).

2.        Hutchison, C. A. et al. Science 351, aad6253 (2016).

3.        Rees-Garbutt, J. et al. Nature Commun. 11, 836 (2020).

1.        Gherman, I. M. et al. Preprint at

bioRxiv https://doi.org/10.1101/2023.10.30.564402 (2024).

2.        Grome, M. W. et al. Nature https://doi.org/10.1038/s41586-024-08501-x (2025).

3.        Nyerges, A. et al. Preprint at

bioRxiv https://doi.org/10.1101/2024.06.16.599206 (2024).

4.        Zhao, Y. et al. Cell 186, 5220–5236 (2023).

5.        Zhang, X. et al. Preprint at

bioRxiv https://doi.org/10.1101/2024.10.30.619547 (2024).