أخبار

هكذا نجحنا في فكّ شفرة الجينوم السعودي

نشرت بتاريخ 21 مارس 2025

لأول مرة، أصبح لدينا جينوم سعودي كامل، ومتاح للجميع.

ملاك عابد الثقفي

stock photo

على مدى عقود، اعتمدت الأبحاث الجينومية على عينات من أشخاص ينحدرون غالبًا من أصول أوروبية، بينما ظلت المجموعات السكانية العربية ممثلة بشكل محدود جدًا في الدراسات الطبية الحيوية. أدى هذا القصور إلى نقص البيانات الجينية الدقيقة التي تساعد على تشخيص الأمراض الوراثية، وتوقع استجابة المرضى العرب -والسعوديين منهم بشكل خاص- للأدوية والعلاجات المختلفة.

يأتي مشروع KSA001 لسدّ هذه الفجوة، حيث يمثل أول جينوم سعودي مرجعي مكتمل "تيلومير إلى تيلومير -T2T"، أي أنه يغطي كامل الحمض النووي دون أي فجوات أو أجزاء غير مكتملة، مما يجعله أكثر دقة مقارنة بالجينومات المرجعية المستخدمة حاليًا، ويفتح الباب أمام إجراء المنطقة لدراسات متنوعة تتضمن الطب الدقيق، وأبحاث الأمراض، والتنوُّع الجيني.

ملاك عابد الثقفي: أستاذة بقسم الأمراض وطب المختبرات في كلية الطب بجامعة إيموري الأمريكية
ملاك عابد الثقفي: أستاذة بقسم الأمراض وطب المختبرات في كلية الطب بجامعة إيموري الأمريكية

بدأ المشروع بمشاركة متطوعة سعودية من أصول قبلية، تبرعت بعينة دم، بالإضافة إلى عينات من والديها، مع موافقتهم على نشر بياناتهم وإتاحتها للبحث العلمي. سمحت هذه الخطوة للباحثين بفهم أعمق للمتغيرات الجينية، وتمييز الطفرات الجديدة (de novo mutations) عن الطفرات الموروثة، مما ساهم في بناء خريطة جينية دقيقة تعكس الخصائص الوراثية للسعوديين. باستخدام أحدث تقنيات تعيين التسلسل الجيني طويلة القراءة، تمكنا من فك شفرة الجينوم بشكل كامل، مما أتاح لنا التعرف على المناطق الجينومية المعقدة التي لم يكن بالإمكان دراستها سابقًا باستخدام الطرق التقليدية.

يختلف الجينوم السعودي KSA001 عن الجينوم البشري المرجعي العالمي، حيث يحتوي على تسلسلات جينية غير موجودة في المراجع الجينية القياسية. هذا الاختلاف يساعد في تحسين دقة تشخيص الأمراض الوراثية، مثل الأمراض العصبية العضلية، الاضطرابات الأيضية، وبعض أنواع السرطانات التي تنتشر بين السعوديين بمعدلات أعلى. كما يساعد في فهم الطفرات الجينية الفريدة وتأثيرها على تطور الأمراض، مما يمكن العلماء من تطوير علاجات مخصصة لهذه الفئة السكانية. دعم هذا الاكتشاف أيضًا تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي في التشخيص الطبي، حيث يمكن تدريب الخوارزميات على بيانات جينية أكثر دقة وتمثيلًا للسكان المحليين، مما يسهم في تحسين دقة التنبؤ بالأمراض واستجابات المرضى للعلاج.

يُعد معدل انتشار الأمراض الوراثية في السعودية من بين الأعلى عالميًا، بسبب ارتفاع نسبة زواج الأقارب. لذا، فإن وجود مرجع جيني خاص بالسعوديين يساعد في تطوير فحوصات جينية دقيقة للكشف المبكر عن الأمراض الوراثية الشائعة في المملكة، وتحسين العلاجات الموجهة، واختيار الأدوية المناسبة بناءً على التركيب الجيني لكل مريض. كما يسهم في توفير بيانات أكثر دقة للبحث العلمي وتطوير استراتيجيات جديدة للوقاية من الأمراض. إضافةً إلى ذلك، فإن ابتكار وسائل تشخيصية تعمل بالذكاء الاصطناعي، ومدرَّبة على الجينومات الجديدة، من شأنه أن يسهم في تصنيف المتغيرات الجينية بدقةٍ أكبر، فضلًا عن تسريع عجلة الاكتشافات المبتكرة في مجالات طب الأعصاب، والمناعة، وتصميم الأدوية المخصَّصة، أي التي تناسب حالة مرضية ولا تناسب أخرى.

بعد نجاح مشروع KSA001، بدأنا العمل على مشروع جديد "الخريطة الجينومية السعودية الشاملة" (Saudi Pangenome)، والذي يهدف إلى دراسة التنوع الجيني بين تسع أفراد من خمس مناطق رئيسية في المملكة. يختلف هذا المشروع عن KSA001، حيث لا يقتصر على جينوم فرد واحد، بل يجمع بيانات من عدة أشخاص، مما يساعد على تحليل التنوع الجيني الواسع بين السعوديين، وفهم أصولهم الوراثية بشكل أكثر تفصيلًا، واكتشاف المتغيرات الجينية النادرة التي قد تكون مسؤولة عن بعض الأمراض غير المفهومة بشكل جيد حتى الآن، وتحسين دقة التنبؤ بالمخاطر الصحية، مما يؤدي إلى تطوير برامج وقائية أكثر كفاءة.

صحيحٌ أن هناك العديد من الدراسات الجينومية التي تركز على المجموعات السكانية القديمة والمعاصرة بمنطقة الشرق الأوسط، إلا أن البيانات الجينومية التي نتجت عن هذه الدراسات – إلا قليلًا منها – لم تُتح للجميع. وخلافًا لما كان عليه الحال في الدراسات الجينومية السابقة بالمنطقة، تقرَّر الإفصاح عن بيانات الجينوم السعودي المرجعي KSA001، و«الخريطة الجينومية السعودية الشاملة»، وكل ما يتصل بهما من بيانات، وإتاحتها إتاحةً حرةً للكافَّة عملًا بمبادئ التمكين من البحث في البيانات، والاطلاع عليها، والاستفادة منها، وإعادة استخدامها (التي يُشار إليها اختصارًا بمبادئ FAIR).

تسهم هذه المبادئ في إتاحة البيانات في مجال الطب الجينومي، مما يفتح الباب أمام الشراكات البحثية على مستوى العالم، ويعزز تمثيل المجتمعات العربية في الدراسات الجينية واسعة النطاق. كما أنها تساهم في تمهيد الطريق لدمج البيانات الجينومية السعودية في الأدوات التشخيصية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، مما يعزز دقة التشخيص والعلاجات المخصصة.

 انطلاقًا من هذا النهج، فإن نشر البيانات الخاصة بالجينوم السعودي المرجعي KSA001، وإتاحتها للجميع دون قيود، يتيح للعلماء حول العالم فرصة استكشاف طرق جديدة لفهم البنية الجينية للبشر، ودراسة علم الأحياء التطوُّري، وتعزيز الأبحاث في علم الجينوم الإكلينيكي. هذه الخطوة لا تدعم فقط البحث العلمي، بل تساهم أيضًا في تطوير تقنيات تشخيصية وعلاجية أكثر تقدمًا وشمولية.

 تمثل هذه الجهود الجينومية تقدمًا كبيرًا في مجال الأبحاث الجينية في المملكة، لكنها ليست سوى البداية. ما زلنا بحاجة إلى التوسع في استخدام تقنيات قراءة الأجزاء الجينومية الطويلة (long-read sequencing)، التي تتيح تحليل الحمض النووي بمزيد من الدقة، حتى نتمكن من فهم البنية الجينية بشكل أعمق. كما ينبغي أن تشمل الدراسات عينات من أفراد أكثر تنوعًا جينيًا، للتعرف على الفروقات الوراثية بين المناطق المختلفة داخل المملكة.

 لكن التحدي الحقيقي لا يقتصر على اكتشاف هذه المعلومات، بل في تحويلها إلى ممارسات طبية ملموسة تفيد المرضى مباشرة. لتحقيق ذلك، نحتاج إلى تعزيز التكامل بين الدراسات الجينومية والطب الإكلينيكي، بحيث يتم تطبيق هذه الاكتشافات في تشخيص الأمراض وعلاجها بشكل أكثر دقة وفعالية.

 فيما يتعلق بالخطوات المستقبلية، نهدف إلى إنشاء قاعدة بيانات متكاملة للخريطة الجينومية السعودية، تحتوي على آلاف الجينومات عالية الجودة، لتكون مرجعًا مهمًا في الأبحاث والتطبيقات الطبية. هذه البيانات لن تفيد فقط في فهم الأمراض الوراثية وعلاجها، بل ستدعم أيضًا الطب التحويلي (translational medicine)، الذي يهدف إلى نقل الأبحاث العلمية من المختبر إلى التطبيق العملي في المستشفيات والعيادات.

 خلال العقد القادم، من المتوقع أن نشهد قفزة كبيرة في مجال الجينوميات، تقودها الأبحاث الجينية العربية، مما سيجعل علم الجينات جزءًا أساسيًا من نظام الرعاية الصحية. هذا التطور سيؤدي إلى توفير علاجات أكثر دقة وفعالية، وتحسين جودة الحياة للجميع.

 ملاحظة: البحث الذي يعرض «الخريطة الجينومية السعودية الشاملة» Saudi Pangenome مُدرج للنشر بإحدى دوريات «نيتشر بورتفوليو» Nature Portfolio. ويمكنك الاطلاع على نسخة ما قبل الطبع عبر هذا الرابط.

 

* هذه ترجمة المقال المنشور بالنسخة الإنجليزية من موقع «نيتشر ميدل إيست» بتاريخ ١٨ مارس ٢٠٢٥.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.34