أخبار

سحب دراسة جدلية حول علاج لـ«كوفيد-19» بعد أربع سنوات

نشرت بتاريخ 2 يناير 2025

هذه الدراسة حول عقار الهيدروكسي كلوروكوين بقيادة الباحث الفرنسي ديدييه راؤولت تُعد ثاني أكثر الدراسات ظهورًا في الاستشهادات البحثية من بين ما سُحب إلى اليوم من المؤلفات البحثية العلمية.

ريتشارد فان نوردِن

يُسنخدم عقار هيدروكسي كلوروكوين لعلاج الملاريا، واختُبرت فعاليته كعلاج لـ«كوفيد-19».
يُسنخدم عقار هيدروكسي كلوروكوين لعلاج الملاريا، واختُبرت فعاليته كعلاج لـ«كوفيد-19».
حقوق نشر الصورة: George Frey/AFP via Getty

سُحبتْ دراسة كانت قد أثارت حماسًا بالغًا وقت نشرها قبل أكثر من أربعة أعوام ونصف العام، حين زعمتْ أن علاجًا رخيصًا للملاريا من شأنه أن يعالج مرض «كوفيد-19»، وهي الفكرة التي ثبت عدم صحتها مؤخرًا1.

 انتقد باحثون الدراسة المثيرة للجدل مراتً عديدة، مُعربين عن مخاوفهم بشأن دقة بياناتها، وعدم وضوح إجراءات الحصول على الموافقة الأخلاقية لها. سُحِبت الدراسة في نهاية المطاف، بسبب مخاوف تتعلق بإجراءات اعتمادها من الناحية الأخلاقية، وشكوك حول المنهجية التي أُجريت بها، ما يجعلها الدراسة الثامنة والعشرين التي يجري سحبها للمؤلف المُشارك فيها ديدييه راؤولت، عالم الأحياء الدقيقة الفرنسي الذي عمل سابقًا في معهد المستشفى الجامعي لعدوى البحر المتوسط (IHU) في مدينة مرسيليا، والذي ذاع صيته عالميًا خلال جائحة «كوفيد-19». إذ كشَفت تحقيقات فرنسية أن راؤولت والمعهد سالف الذكر قد انتهكا بروتوكولات الموافقة الأخلاقية في العديد من الدراسات التي أجرياها، وإثر ذلك تقاعد راؤولت.

 ووفقًا لقاعدة بيانات «ويب أوف ساينس»  Web of Science، فقد أُشار نحو 3400 استشهاد بحثي إلى الورقة البحثية المذكورة، ما يجعلها الورقة الأعلى ظهورًا في الاستشهادات البحثية بين ما جرى سحبه من مؤلفات علمية حول «كوفيد-19»، والثانية من حيث عدد الاستشهادات البحثية بها بين جميع ما سُحب من أوراق بحثية.  

 وتعقيبًا على نبأ سحب الورقة البحثية، قالت إليزابيث بيك، اختصاصية التحليل الجنائي للصور والمتخصصة في تقديم الاستشارات حول النزاهة العلمية في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وهي من بين من انتقدوا الورقة البحثية وأعمال راؤولت: "هذا خبرٌ سار للغاية". ولفتت إلى أن العديد من الدول، ومنها الولايات المتحدة، اعتمدت استخدام الهيدروكسي كلوروكوين  (HCQ)، العقار محل الدراسة في الورقة المذكورة، لعلاج حالات الإصابة بـ«كوفيد-19». لكنّ دراساتً لاحقة أظهرت انعدام جدوى العقار. من هنا، تضيف بايك: "ما كان ينبغي أبدًا نشر هذه الورقة البحثية، أو كان يجب سحبها فور نشرها".

 علاج عطّل تطوير الأدوية الفعالة

 نظرًا لأن الدراسة أسهمت بشكلٍ كبير في الترويج المبالغ فيه لعقار الهيدروكسي كلوروكوين، "كان الأثر الأهم لها، وإن لم يكن متعمدًا، هو أن أدت نوعًا ما إلى تهميش وإبطاء جهود تطوير عقاقير مضادة لـ«كوفيد-19»، في وقتٍ كانت فيه العلاجات الفعالة لهذا المرض ضرورة ملحة"، بتعبير أول سوجارد، اختصاصي الأمراض المُعدية من مستشفى جامعة آرهوس في الدنمارك، الذي لم يشارك في الدراسة أو الأعمال البحثية التي انتقدتها. وتابع: "من الواضح أن الدراسة أُجريت على عجل ولم تلتزم بالمعايير العلمية والأخلاقية المُتعارف عليها". 

 وفي إشعار سحب مطوّل نُشر في «الدورية الدولية لمضادات الميكروبات» International Journal of Antimicrobial Agents في السابع عشر من ديسمبر الجاري، صرحت جهة نشر الدورية «إلسيفير» Elsevier و«الجمعية الدولية للعلاج الكيميائي المضاد للميكروبات» International Society of Antimicrobial Chemotherapy، وهي تسمى اختصارًا (ISAC) وتشترك أيضًا في ملكية الدورية، أنهما أجرتا تحقيقًا حول الدراسة ووجدتا، من جملة إشكاليات أخرى اعترتها، أنه لم يمكن الجزم بما إذا كانت قد حصلت على الموافقات الأخلاقية اللازمة قبل أن ينضم إليها المشاركين فيها. كما لم يمكن التأكد مما إذا كان جميع المُشاركين قد انضموا إليها في وقت مناسب يسمح بتحليل جميع بياناتها وإدراجها في المسودة البحثية التي قُدمت للنشر.    

 وأفاد إشعار السحب بأن ثلاثة من المؤلفين المُشاركين في الدراسة طلبوا إزالة أسمائهم من الورقة البحثية، حيث أشاروا إلى أنهم ساورتهم شكوك حيال المنهجية المُستخدمة فيها.  بينما رفض خمسة مؤلفين مشاركين آخرين سحب الدراسة وطعنوا في الأسباب التي استند إليها قرار سحبها.  

 أرسل أحد هؤلاء الباحثين، وهو فيليب بروكي الباحث في مجال الأمراض المٌعدية من معهد المستشفى الجامعي لعدوى البحر المتوسط في مرسيليا، ردّه إلى دورية Nature على نسخة سابقة من مقترح سحب الدراسة. وقد قدمه في أغسطس الماضي، حيث أكد هو وراؤولت لجهة النشر «إلسيفير» أن الدراسة "لا تعتريها أية إشكاليات من الناحية الأخلاقية أو التنظيمية"، وأنها "لا تنطوي على أي انحراف عن النزاهة العلمية"، لافتين إلى أنهما وقعا "ضحيتان للمضايقات الإلكترونية".

 ورفض راؤولت الإدلاء بتعليق لدورية Nature فيما يتعلق بسحب الدراسة والمخاوف المُتعلقة بأبحاثه.

تقاعد ديدييه راؤولت هذا العام من منصبه كمدير لمعهد المستشفى الجامعي لعدوى البحر المتوسط في مرسيليا.
تقاعد ديدييه راؤولت هذا العام من منصبه كمدير لمعهد المستشفى الجامعي لعدوى البحر المتوسط في مرسيليا.
حقوق نشر الصورة:  Julien Poupart/Abaca Press via Alamy

 الترويج لعقار هيدروكسي كلوروكوين

 في بداية الجائحة، أشارت دراسات مخبريّة وبعض التقارير البحثية من الصين إلى أن العقار قد يساعد في علاج«كوفيد-19».  آنذاك، عندما كان راؤولت رئيسًا لمعهد المستشفى الجامعي لعدوى البحر المتوسط في مرسيليا، أيد بقوة هذه الفكرة.

 وفي السادس عشر من مارس عام 2020، أفاد مع فريقه البحثي بالمعهد في مسوّدة بحثية أن عقار الهيدروكسي كلوروكوين بمفرده، وأحيانًا بمصاحبة المضاد الحيوي «أزيثرومايسين» Azithromycin، قد قلّل الحِمل الفيروسي لدى عشرين مُشاركًا.  وسرعان ما فجرت الدراسة ضجّة على محطات التلفزيون في الولايات المُتحدة.  بعدها بأربعة أيام، نُشرت الدراسة في «الدورية الدولية لمضادات الميكروبات»، حيث كان المؤلف المُشارك فيها جان مارك رولان يشغل منصب رئيس تحرير الدورية؛ وقبِلت الدورية نشر المسوّدة المُقدمة خلال يومٍ واحد فقط.  لاحقًا، أُضيفت مُلاحظة للدراسة تُشير إلى أن جان مارك رولان "لم يكن له أي دور" في عملية مُراجعة الأقران الخاصة بتلك الورقة. وآنذاك، لفت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدوره إلى الدراسة على منصة تويتر (المعروفة الآن باسم منصة «إكس») قائلًا إن هذا العلاج قد "يقلب الموازين".  

 لكن في غضون وقت قصير اكتشف نقاد الورقة أخطاءً فيها.  على سبيل المثال، أثارت بيك عدة مخاوف بشأن الورقة البحثية، من بينها: عدم وضوح الإطار الزمني الذي حصلت خلاله الدراسة على اعتمادها من الناحية الأخلاقية، واحتمالية وجود اختلافات مُربكة بين سمات المُشاركين في مجموعة المقارنة والمجموعة التي تلقت العقار، ما يدل على أن المُشاركين في الدراسة لم يُوزعوا عشوائيًا على هاتين المجموعتين (رغم أن الدراسة لم تزعم أنها تجربة عشوائية). كما انسحب ستة أفراد تلقوا عقار الهيدروكسي كلوروكوين من الدراسة؛ توفي أحدهم ونُقل ثلاثة آخرون إلى وحدة العناية المُركزة.  

 وفي أبريل من عام 2020، أعلنت «الجمعية الدولية للعلاج الكيميائي المضاد للميكروبات» أن الورقة البحثية للدراسة لم تستوف بمعايير الجمعية.  وفي يوليو من العام نفسه، نشرت «الدورية الدولية لمضادات الميكروبات» مُراجعات نقدية للورقة البحثية، من بينها مراجعة لفريتس روزندال عالم الأوبئة من المركز الطبي بجامعة لايدن بهولندا، والذي أشار إلى أن الدراسة "تعاني من قصورٍ كبير في منهجيتها"2.  لكن «الجمعية الدولية للعلاج الكيميائي المضاد للميكروبات»، قررت عدم سحب الورقة البحثية معللة لذلك بأنه "إلى جانب أهمية مُشاركة البيانات المرصودة خلال ذروة الجائحة، يجب إفساح المجال لعقد نقاش علمي عام وقوي يتوخى الصراحة والشفافية فيما يخص نتائج الدراسة".

 التحقيق في الدراسة

 ومع ذلك، أعادت مؤسسة «إلسيفير» في يونيو الماضي فتح تحقيق حول الدراسة، بعد أن طالب بسحبها مجددًا مجموعة من الباحثين، ومنهم إليزابيث بيك. كذلك جاءت هذه الخطوة على أثر طلب ثلاثة من المؤلفين المشاركين في الدراسة إزالة أسمائهم منها بسبب مخاوف تتعلق بمنهجيتها، حسبما ورد على موقع «ريتراكشن ووتش» Retraction Watch المعني بمتابعة عمليات سحب المواد البحثية.

 حدد إشعار السحب هوية هؤلاء المؤلفين الثلاثة وهم: ستيفان أونوريه، اختصاصي دراسة أدوية الأورام من جامعة إكس-مرسيليا، ويوهان كورجون، الباحث في مجال الأمراض المُعدية، وفاليري جوردانينجو، عالمة الفيروسات، والأخيران كلاهما يعمل في مستشفى جامعة نيس. وجاء في الإشعار أن المؤلفين الثلاثة "يؤكدون على أن لديهم مخاوف تتعلق بآلية عرض النتائج وتفسيرها في هذه الدراسة"، وأنهم لا يرغبون في إدراج أسمائهم فيها.

كما أضاف الإشعار أن «إلسيفير»، الجهة الناشرة للدورية، كلفت جيم جراي، استشاري علم الأحياء الدقيقة من «مستشفى برمنجهام للأطفال» و«مستشفى برمنجهام للنساء» في المملكة المتحدة بالإشراف على التحقيقات. وعللت الدورية لتلك الخطوة بأنه بالإضافة إلى المخاوف المتعلقة بالموافقة الأخلاقية على الدراسة المذكورة، لم تتمكن الدورية من الجزم بوجود "تكافؤ" بين فرص نجاح علاجي الدراسة، أي أنها لم تستطع التيقن حقًا من جدوى كل عقار مقارنة بالآخر بين مجموعتي الدراسة (المجموعة التي تلقت عقار هيدروكسي كلوروكوين، ومجموعة المقارنة).

 وحسب ما ورد في إشعار السحب، فإن الدورية لم تتلقَّ قبل الموعد النهائي الذي حددته ردًا من المؤلف المراسل، راؤولت، للتعليق على تلك المخاوف التي أُثيرت حول الدراسة.

 جذور المشكلة تمتد من معهد ديدييه

 جاء التحقيق وسحب الدراسة في أعقاب مخاوف أوسع نطاقًا  تتعلق بالأبحاث التي تُجرى في معهد المستشفى-الجامعي لعدوى البحر المتوسط في مدينة مرسيليا.  فبعد الدراسة التي أُجريت عام 2020، واصل الباحثون في المعهد نشر أوراق بحثية أخرى عن عقار هيدروكسي كلوروكوين (HCQ) و«كوفيد-19»، بما في ذلك دراسة ضمت نحو 30 ألف مُشارك3.  لكن سرعان ما أظهرت دراسات أخرى أن العقار لم يكن فعّالًا ضد المرض4. وبدأ محققون وصحفيون استقصائيون في إثارة تساؤلات حول أخلاقية البحث العلمي في مجموعة كبيرة من الدراسات التي أجراها باحثو المعهد، ومُعظمها يتصل بأمراض معدية بخلاف مرض «كوفيد-19».  وقد واجه بعض مُنتقدي المعهد، تهديدات قانونية من قِبل راؤولت، ومن ضمن هؤلاء بيك، إلا أنه خلال هذا العام خَلص مدعٍ عام في مرسيليا إلى أنه لا توجد أي قضية ضدها.

 وفي عام 2022، أصدرت «الوكالة الوطنية الفرنسية لسلامة الأدوية والمنتجات الصحية»French National Agency for Medicines and Health Products Safety، بجانب مُفتشين كلفتهم وكالتا رقابة حكوميتين بالتدقيق في المسألة تقارير تُفيد باكتشاف انتهاكات أخلاقية في عدد من مشروعات البحث العلمي المُتعلقة بمرض السل وغيره من الأمراض المُعدية التي أُجريت في المعهد.  وأُحيلت نتائج هذه التقارير إلى مُدع عام لإجراء تحقيق، رغم أن وضع القضية لا يزال غير واضح.

 وفي العام ذاته، تخلى راؤولت عن منصبه كرئيس للمعهد. كذلك يدلل تعليق آخر نشره باحثون من خارج المعهد في أغسطس من عام 2023 على حجم الإشكاليات التي يحتمل أنها تعتري أبحاثه. وقد أثار التعليق تساؤلات حول الموافقات الأخلاقية التي حصل عليها المعهد فيما يخص 456 تجربة أُجريت به5. وبدأت دوريات علمية في الإعلان عن سحب بعض الأوراق البحثية التي صدرت عن المعهد أو الإعراب عن قلقها بخصوص تلك الأبحاث. كما جدد نُقاد المعهد دعوتهم إلى سحب أولى أوراقه البحثية بشأن عقار الهيدروكسي كلوروكوين 6.

 حول هذا علق سوجارد: "لم يتضح سبب استغراق الدورية أكثر من أربعة أعوام ونصف العام بعد نشر الدراسة كي تتوصل لهذا القرار.  ومما يثير الدهشة نوعًا أن مُعظم مؤلفي الدراسة لا يزالون يدافعون عن نتائجها واستنتاجاتها، رغم ما يعتري بياناتها من تضارب وعيوب منهجيتها وما يشوبها من إشكاليات أخلاقية، كما أوضح إشعار السحب".

وإجمالًا، صار عدد الأوراق البحثية المسحوبة التي تُنسب إلى المعهد اثنين وثلاثين ورقة بحثية، ثمان وعشرون منها ألفها راؤولت، بالإضافة إلى مائتين وثلاثين دراسة أخرى أُثيرت حولها شكوك.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.1


References:

1.   Gautret, P. et al. Int. J. Antimicrob. Agents 56, 105949 (2020).

2.   Rosendaal, F. R. Int. J. Antimicrob. Agents 56, 106063 (2020).

3.   Brouqui, P. et al. New Microbes New Infect. 55, 101188 (2023).

4.   Axfors, C. et al. Nature Commun. 12, 2349 (2021).

5.   Frank, F. et al. Res. Integr. Peer Rev. 8, 9 (2023).

6.   Barraud, D. et al. Therapies 78, 437–440 (2023).